أبواب

قرّاء ولكن!

خليل قنديل

مازلت أذكر حالة التباهي التي كانت تصيبني وتصيب بعض الأصدقاء ونحن في سنوات قراءتنا الأولى للأعمال الإبداعية والمؤلفات الأدبية، إذ كنّا نسعى جاهدين ليكون الكتاب لافتاً بسماكته الورقية، حيث كانت تلك السماكة تمنحنا رفعة خصوصاً بالمسير من أمام الجيران، وتحديداً أمام تلك الفتاة ذات الإطلالة العصية من النافذة.

ومازلت أذكر كيف كنّا نتقاسم الكتاب في جولات قرائية، حيث يتحول الكتاب إلى ما يُشبه الملكية العامة، ولم تكن المطالعة الأدبية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، تحمل كل هذه العدوانية والإنزوائية السائدة حالياً في الاقتناء، والإصرار على عدم التبليغ عن جودة الكتاب وضرورة تعميمه. كان الانفراد في قراءة كتاب يشكل علينا عبئاً، بحيث كنّا حينما ننتهي من قراءة الكتاب نسعى إلى الأصدقاء، كي نمنحهم لذة الشراكة في القراءة.

ومازلت أذكر حالة الحرص التي كان يُبديها بعضنا على كتبه، وهو يُثقل علينا بالتوصيات والتوجيهات طالباً منا التعامل بعناية مع كتبه التي نستعيرها منه.

وكان بعض الأصدقاء حينما تستعير منهم الكتاب، تشعر بأن الكتاب قد تحولت أطرافه إلى حجب مطلسمة، بسبب الملاحظات التي كان يكتبها على حواف ورق الكتاب، وفي هذا الإطار لابد من الإشارة إلى الصديق الشاعر علي العامري، الذي كنت أستعير منه الكتب في وقت لاحق، وقد لاحظت أنه كان يكتفي بوضع نقطة بقلم الرصاص، نقطة أنيقة تكاد لا ترى.

وأذكر أن بعض الأصدقاء كانوا يتعاملون مع الكتب المستعارة بنوع من السطو، بل إن أحد الأصدقاء جعلني أشعر بالغيظ والقهر، حين رأيت كتاب «داغستان بلدي»، الذي سبق أن استعاره مني وقدمه هدية لإحدى شاعرات مهرجان جرش في مطلع التسعينات.

وأطرف القرّاء هو ذاك الذي كان يزاملني في السكن منتصف السبعينات، حيث كان يحضر إلى السكن متعباً وبه رغبة أن ينام مدة نصف ساعة، فيطلب مني على عجل أعقد كتاب في مكتبتي، وحينما كنت أناوله بعض كتبي الفلسفية، كان ينظر إلى الصفحات بعينين ناعستين، ومن ثم يذهب في إغفاءته النهارية!

والأطرف من ذاك الصديق، هو ذاك الذي ألح عليّ بطلب كتاب «الوجود والعدم»، لجان بول سارتر، وحينما أخذه مني غاب أكثر من نصف عام، وذات يوم مررت من جانب سيارته لأجد الكتاب مركوناً على «تابلوه» السيارة الخلفي، وقد أكلته أشعة الشمس، ففهمت أن صديقي اختار هذا الكتاب تحديداً ليشير إلى كل عابر طريق أن صاحب هذه السيارة في غاية الوعي والثقافة.

وهكذا فإن تاريخنا القرائي لا يخلو من الفكاهة التي تصعب ملاحظتها في زمن ثقافة الصورة، وتحديداً في زمن صارت فيه القراءة مكهربة.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر