أبواب

الجغرافيا الضيقة

خليل قنديل

تشبه المساحة الجغرافية لحياة بعض المبدعين العرب، تلك المساحة المتاحة للدجاج اللاحم في المزارع التي تبيض يومياً، وتتولد أيضاً يومياً، ويمارس عليها التعاقب الزمني بالطريقة ذاتها التي يتم فيها التعاقب في الإضاءة بين النهار والليل، فتصدق أنها عاشت زمناً طويلاً، وأن حياتها تكفي للتعبير عن الحياة ومكنوناتها.

وبعض المبدعين العرب إذا قمت باحتساب المساحة التي ولدوا فيها، والمدرسة التي أكملوا فيها فصولهم المدرسية، إضافة إلى دراستهم الجامعية والوظيفة التي حصلوا عليها واستقروا فيها حياتياً، سنجد أن تلك المساحة لا تزيد على اثنين الى ثلاثة كيلومترات مربعة.

والغريب أن هؤلاء الكتاب لم يقترفوا إثم مغادرة مكانهم الأول. بمعنى انهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الاشتباك مع جبال ووديان وبحور ومحيطات وأنهر وغابات، وأنهم لم يتلمسوا ملامح ذاك «الجد الكهفي» القابع في أرواحهم، او يقبضوا على تلك القدرة الإنهاضية في تعلم العراك مع الطبيعة الأرضية وتقلباتها المناخية المرعبة.

وفي سبعينات وثمانينات القرن الفائت، كنت أندهش من مسلك بعض الجهات الأمنية العربية في احتجاز جواز سفر بعض هؤلاء الكتاب، لا لشيء سوى أنهم حين حصلوا على جوازاتهم وأتيح لهم السفر، بقوا متشبثين بأمكنتهم التي لا تتعدى تلك المساحة الحياتية الضيقة.

إن «التخندق» في مثل هذه المساحة الأرضية الضيقة، والاكتفاء بأوكسجينها الشحيح قد فرّخ لنا العديد من المبدعين الذين يبيضون يومياً العديد من القصص والروايات والأشعار التي تعتمد في قواها الإبداعية على السمنّة اللغوية أو الذهاب في التجريد الكتابي، الذي ما إن تحكه بحثاً عن المعنى أو عن الفكرة الريادية الجديدة، لا تجد إلا اللغو الكلامي القائم على «التأمل الأعرج» في الحياة وتعاريجها.

إن الإقامة في مثل هذه المساحات الجغرافية الضيقة، ومحاولة بناء بيت العمر فيها والزواج وإنجاب الأبناء والبحث الأعمى عن التقاعد، لا يمكن أن يولد أدباء وكتاباً لهم القدرة على قراءة الحياة والحفر في دهاليزها، لأن مثل هذه الإقامة الجبرية في المكان القائم هي قادرة بحق على لجم مخيال المبدع وتقزيم رؤاه.

والغريب أن بعض هؤلاء الكتاب لهم في مساحتهم الضيقة هذه مواقفهم السياسية العابرة للقارات، والثرثرة الدائمة في التخوين والحديث عن الرجعية والسلفية والإمبريالية ونظرية المؤامرة، كما لديهم علاقتهم المؤبدة مع قوى المعارضة والتخوين الدائم لكل ما يجرح مساحتهم الضيقة من جديد ومدهش.

إن كتاباً استطاعوا ان يحفروا عميقاً في الذات الانسانية وفي جغرافية الأرض ومكنوناتها التي تكاد تكون سرية، استطاعوا فعل ذلك بسبب جرأتهم على اقتحام جغرافيا المكان الأرضي، ولهذا امتلكوا قدرة الرائي الذي يمتلك عيناً إضافية في المشاهدة والكشف.

إن سفاهة الكتابة السائدة عند العديد من مبدعينا العرب تعود أساساً الى تلك الحركة السلحفائية والزئبقية اللزجة في مساحة لا تتعدى ثلاثة كيلومترات مربعة، وتلكم هي المأساة.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر