المرصد

خدمة التحقق من «الحقائق الكاذبة»

عام 2017، اعتبر قاموس اكسفورد، أن تعبير «حقائق كاذبة» هو تعبير عام، وكان يقصد به «الخبر الصحافي الذي يقدم معلومات كاذبة»، وكان هذا اعترافاً منه بأن عالم ثورة المعلومات الذي هتف الجميع له، قد تحول رسمياً إلى عالم تضليل المعلومات، وأن الحقيقة التي خلنا أنها ستصبح بسهولة في أيدينا، بفعل توافر وسائل التواصل، أصبحت أكثر قابلية للتشوية والطمس، بفعل الإغراق المتعمد، وضخ أنابيب الأكاذيب.

21

حقيقة مكذوبة

اكتشفتها «نيويورك

تايمز» بالأرقام في

خطاب ترامب الاتحادي.

لم تكن مصادفة ألا يمر عام واحد على نحت اكسفورد لهذا التعبير إلا وتصدر دراسة موثقة من معهد «ماساشوستس»، تقول إن «الأخبار المزيفة أسرع انتشاراً ست مرات من الأخبار الصحيحة»، وهي دراسة مرعبة، تجعلنا نوقن بأننا نعيش في «بيت العنكبوت»، وكان ضرورياً والحال كهذه أن تنشأ مهنة اسمها «خدمة التحقق من الأخبار» في كل مطبوعة أو وسيلة إعلامية، مهمة أصحابها «فلترة الخبر»، سياسياً كان أو اجتماعياً أو ثقافياً أو رياضياً، وعرض الجرعة الإعلامية التي يتضمنها على الفحص، وتدقيق الرقم أو المعلومة فيه، سواء في شقه التحديثي أو في خلفيته أو في بنائه أو سياقه، ثم الانتهاء إلى تمريره أو رفضه، أو حتى تحديد نسبة الحقيقة المئوية فيه.

في الولايات المتحدة وحدها، شهدت الفترة الأخيرة إنشاء 10 مواقع إلكترونية كبرى تعمل في المهمة المشار اليها - مهمة «تدقيق الحقائق» - من ضمنها «أول سايدز»، و«فاكت شيكر»، و«ميديا مترز»، و«نيوز بيسترز»، و«واشنطن بوست فاكت تشيكر»، وكان لافتاً أن صحفاً ومؤسسات إعلامية كبرى أصبح لديها «مدقق حقائق كاذبة»، والاتجاه يسير الآن إلى أن يصبح في كل قسم من منشأة إعلامية «مدقق حقائق»، حيث أصبحت هذه المهنة شائعة في أكثر من مكان.

أخيراً، دققت «نيويورك تايمز» بالأرقام خطاب ترامب الاتحادي، فاكتشفت فيه 21 حقيقة مكذوبة، منها ما يتعلق بالاقتصاد، أو الهجرة، أو الأمن القومي، أو الطاقة، أو البنية التحتية، وقد استخدمت «التايمز» في تقييمها لالتزام المهنية عبارات من نوع: «صحيح»، «خطأ»، «صحيح وخطأ في السياق»، «مبالغة»، «تضليل متعمد»، «نوعاً ما»، «جزئياً صحيح لكن في سياق مختلف»، «غير واضح».

وخارج أميركا، وفي مختلف قارات العالم، لم يكن الأمر أقل انتشاراً، إذ تم تأسيس مواقع «إفريقيا تشيك» في دول مثل كينيا والنيجر، وتأسيس موقع «ييوم» في الهند، و«يوهو» في اليابان، إضافة إلى مواقع يضيق المقال لذكرها في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، وأميركا اللاتينية، وآسيا.

اللافت للنظر أن البقعة الوحيدة التي لم تفكر في إدخال هذه الخدمة حتى اللحظة هي عالمنا العربي، وهي ملحوظة تستدعي أكثر من علامة استفهام.

فالوقائع تقول إن مجتمعاتنا الإخبارية شهدت من «الكذب الإعلامي» من «مدرسة على عينك يا تاجر» أكثر مما شهدته من صناعة نقل أخبار حقيقية منذ دخولها عالم الإعلام، بل إن صناعة الأكاذيب هذه اتخذت شكلاً مؤسسياً، وإنتاجاً كبيراً، حتى إن كلمة «صحافة صفراء» لم يكن لها وجود في بعض البلدان العربية أحياناً، ببساطة لأن بعض مجتمعاتها لم تكن ترى غير «الصفار».

قد يكون الختام المنطقي لهذه المتابعة، هو الدعوة للحاق بخدمة التحقق من الحقائق الخبرية، وإنشاء مرصد إعلامي واحد معني بهذه المهمة، على الأقل لتبرئة الذمة، وإيجاد نوع من الموازنة.

هي دعوة مستحقة لا شك، لكن السؤال الذي لا يمكن الهروب من شبحه سيطل، وهو: هل تعتقد أننا، عربياً، سنحتار في تحويل مرصد كهذا، إلى مرصد تسريب وتدعيم الأكاذيب؟ وهل هناك ضمانات ألا يولد «مدقق الحقائق المنافق»، و«مدقق الحقائق المزوّر»؟

الداء للأسف في أصل الشجرة.

تويتر