منها العولمة والهيمنة الغربية

مخاطر متزامنة تهدّد تماسك النظام العالمي

صورة

سادت في الخمسينات من القرن الماضي مقولة مفادها «ما هو في مصلحة شركة جنرال موتورز هو في مصلحة الولايات المتحدة، والعكس صحيح أيضاً». وقد كان ذلك متسقاً مع حالة النظام الدولي في ذلك الوقت، نظراً إلى قيامه على «الدول القومية» و«اقتصادات قومية»، ترتبط قوتها بالموارد والقدرات المتاحة لكل دولة. لكن ما عرف بحركة العولمة، التي قامت على تحرير التجارة وحركة رأس المال، فككت الحسابات التقليدية للقوة الاقتصادية، وقوضت الصيغ السياسية السائدة على الصعيد الداخلي، وتوازنات القوة في النظام الدولي. هذه التقلبات السياسية والمنافسات الاستراتيجية أصبحت تهدّد تماسك واستمرارية نموذج العولمة نفسه.

تمتعــت الولايــات المتحــدة بالصــدارة علــى الســاحة الدوليــة إلــى حــد كبيــر، لأنهــا خرجــت مــن الحــرب العالميــة الثانيــة بقاعــدة اقتصاديــة قويــة، بينمــا دمــرت القواعــد الإنتاجيــة لــكل الــدول الأخــرى التــي انخرطــت فــي هــذا النــزاع. ولهــذا، ســيطرت منتجــات الشــركات الأميركيــة علــى الأســواق العالميــة مــن دون منافــس، وعــزّز ذلــك مــن الهيمنــة الأميركيــة سياســياً ومــع تصاعــد القــوة الاقتصاديــة للــدول الصناعية، فــي أوروبا الغربيــة واليابــان، انضمــت هــذه الــدول إلــى الولايــات المتحــدة فــي منظومــة تحالــف، وقــادت عمليــة تأســيس مــا يعــرف بالنظــام الليبرالــي الدولــي، الــذي عــرف علــى الصعيــد الاقتصــادي بنظــام «بريتــون وودز»، والــذي اعتمــد أســس النظــام الرأســمالي كما طبــق فــي الغــرب. وتبــوأت الــدول الأوروبيــة واليابــان مكانــة متميــزة فــي هــذا النظــام لمــا حققتــه مــن قــوة اقتصاديــة، علــى الرغــم مــن أنهــا لــم تكــن تمتلــك قــدرات عســكرية ملموســة، حيــث حقــق لهــا التحالــف مــع القــوة العســكرية الكبــرى، الولايــات المتحــدة، مــا تحتاجــه مــن حمايــة، مــن دون تحمــل التكاليــف.

كان هــذا التحالــف فــي مصلحــة الولايــات المتحــدة أيضــاً التــي وإن ظلــت تحتــل مركــز أكبــر اقتصــاد عالمــي، لــم يكــن بوســعها منــع صعــود القــوى الاقتصاديــة الأخــرى، فلجــأت إلــى احتوائهــا فــي هــذا التحالــف، لتضمــن أنهــا ستســاندها ولــن تنازعهــا علــى الســاحة العالميــة فــي دفــع ومأسســة حريــة حركــة التجــارة ورأس المــال والعمالــة، فيمــا عــرف بالعولمــة الاقتصاديــة، والتــي مكنتهــا مــن فتــح أســواق الــدول الناميــة أمــام منتجاتهــا، وحمايــة الحقــوق الفكريــة لمنتجاتهــا بشــكل يكــرس لاســتمرارها فــي احتــلال صــدارة النظــام العالمــي، اقتصاديــاً وسياســياً.

لكــن موازيــن القــوى تغيــرت بعــد عقــود عــدة مــن العولمــة، حيــث ظهــرت اقتصــادات صاعــدة تهــدّد الهيمنــة الغربيــة، وعلــى رأســها الصيــن، التــي باتــت الولايــات المتحــدة تنظــر إليهــا كخصم اســتراتيجي يســعى لتقويــض مكانتهــا وإزاحتهــا مــن علــى قمــة النظــام الدولــي. وعلــى عكــس الــدول الأوروبيــة واليابــان التــي اســتطاعت الولايــات المتحــدة احتــواء صعودهــا، فــإن الصيــن لهــا قيــم مختلفــة ونمــوذج إنتاجــي وتنمــوي مختلــف، يتناقــض فــي كثيــر مــن أبعــاده مــع النمــوذج الغربــي.


حالة العالم

علــى الرغــم مــن اســتفادة الصيــن مــن تســهيلات العولمــة كافــة، فهــي لــم تعتمــد مقاربــة حريــة الســوق، بــل إن الدولــة تحكــم قبضتهــا بشــكل واضــح عليــه، ســواء مــن خــلال القوانيــن والقواعــد التــي تضعهــا، أو عبــر مشــاركتها المباشــرة فــي النشــاط الاقتصــادي مــن خــلال الشــركات المملوكــة للدولــة. وعلــى الرغم مــن وعودهــا المتكــررة بفتــح ســوقها أمــام الشــركات الأجنبية، فمازالــت تقيــد دخــول هــذه الشــركات فــي أنشــطة معينــة، وتفــرض شــروطاً قاســية تتعلــق بنقــل التكنولوجيــا علــى الشــركات التــي تســمح لهــا بالعمــل علــى أراضيهــا.

ويعكــس وضــع الشــركات الكبــرى فــي كل مــن الولايــات المتحــدة والصيــن الفــرق فــي علاقة الدولــة بالاقتصــاد فــي البلديــن. فبينمــا تدعــم قــوة الشــركات الصينيــة بشــكل مباشــر

أو غيــر مباشــر الدولــة الصينيــة، فلــم يعــد هــذا صحيحــاً بشكل كامــل فيمــا يتعلــق بالمنظومــة الاقتصاديــة الأميركيــة. شــركات التكنولوجيــا الكبــرى تحديــداً اســتطاعت حتــى الآن تفــادي الخضــوع للضرائــب، وبذلــك فهــي لا تثــري الخزانــة الأميركيــة، أو خزانــة الــدول الأخــرى التــي تمــارس نشــاطها فيهــا، ويضــاف إلــى ذلــك أن الكثيــر مــن فــرص العمــل التــي توفرهــا هــذه الشــركات تقــع خــارج الحــدود، وهــي بالتالــي لا تلبــي احتياجــات الناخــب الأميركــي ولا تثــري القــوة الشــرائية للمســتهلك الأميركــي، التــي هــي الدعامــة الأساســية للاقتصــاد الأميركــي القائــم علــى الاســتهاك. وهــي متاحــة فقــط لفئــات حصلــت علــى مســتويات متقدمــة مــن التعليــم، ليــست متاحـة للفئات المجتمعيــة التــي كانــت تعمــل فــي الشــركات الصناعيــة التقليديــة، مثــل «جنــرال موتــورز».

مــن جانــب آخــر، أصبحــت للشــركات الأميركيــة علاقــات ومصالــح مــع دول أجنبيــة، ومنهــا الصيــن، لا تمــر عبــر بوابــة الدولــة، قــد لا تتســق فــي كثيــر مــن الأحيــان مــع رؤيــة مؤسســات الدولــة الأميركيــة لهــذه المصالــح. هــذه العلاقــات الخارجيــة تتــم فــي إطــار منظومــة «الحوكمــة العالميــة»، التــي تتحكــم فيهــا وترســي قواعدهــا مؤسســات دوليــة، خــارج إطــار العلاقــات الثنائيــة بيــن الــدول فــي شــكلها التقليــدي.

ويعــد المنطــق الــذي يوجــه حركــة الشــركات فــي هــذا الصــدد هــو منطــق خفــض كُلفــة الإنتــاج وتحقيق الأربــاح وفتح الأســواق لزيــادة المبيعــات، لا تدعيــم الهيمنــة الأميركيــة أو مقتضيات الأمن القومــي. هــذا الوضــع فــي ســبيله للتغيــر مــع شــعور الولايــات المتحــدة بالتهديــد بســبب ظهــور القــوى المنافســة التــي تلحــق بهــا بســرعة، وتهــدد صدارتهــا السياســية والاقتصاديــة.

وقــد بــدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامــب تضغــط علــى الشــركات الأميركيــة لتقليــص تعاملاتهــا مــع الصيــن بدعــوى حمايــة المصالــح الأميركيــة والأمــن القومــي، وفــرض القيــود في مــا يتعلــق بشركة هــواوي كنمــوذج واضــح علــى ذلــك.

ويأتــي لجــوء الولايــات المتحــدة لأســلحة اقتصاديــة فــي المقــام الأول لمواجهــة خصومهــا نابعــاً مــن إدراكهــا بأن القــوة العســكرية وحدهــا لا تمثــل الحــل الــذي يكفــل لهــا اســتمرار الصــدارة علــى الســاحة العالميــة، وهــو هــدف أساســي لإدارة ترامــب.

فالتطــوّر التكنولوجــي فــي مجــال الأســلحة، خصــوصاً النوويــة، جعــل أي مواجهــة عســكرية بيــن القــوى الكبــرى أو حتــى مــع قــوى أصغــر لديهــا إمكانــات نوويــة، عمليــة محفوفــة بالمخاطــر، كمــا أن الناخــب الأميركــي ليــس لديــه اســتعداد لتحمــل كُلفــة مواجهــات جديــدة بينمــا أحوالــه الاقتصاديــة ليســت علــى مــا يــرام.

فــي المقابــل، فــإن الأدوات الاقتصاديــة التــي لجــأت إليهــا، مثــل فــرض عقوبــات التعريفــات الجمركيــة علــى الــواردات، واســتخدام الوضــع الخــاص للــدولار فــي المنظومــة المصرفيــة الدوليــة، والضغــط علــى الشــركات الأميركيــة والحلفــاء لدعمهــا للمنظومــة التــي تحكــم الاقتصــاد الدولــي وتدعــم حريــة الحركــة فيــه. وهــي كفيلــة بتشــجيع دول أخــرى علــى اســتخدام الأســلحة نفســها، مــا قــد يــؤدي إلــى تفــكك وحدتــه وتكاملــه.

تناقضات العولمة الاقتصادية

يــرى بعــض المحلليــن أن نظــام العولمــة الاقتصاديــة غيــر قابــل للاســتدامة بســبب تناقضــات هيكليــة بيــن الأســس التــي قــام عليهــا، ومــن أبرزهــم أســتاذ الاقتصــاد الدولــي بجامعــة هارفــارد دانــي رودريــك، الــذي ابتكــر مقاربــة «المعضلــة ثلاثيــة الأبعــاد»

ويشــير رودريــك إلــى أن النظــام الاقتصــادي العالمــي يقــوم علــى ثلاثــة أضــلاع مــن الصعــب أن تجتمــع وتتحقــق فــي الوقــت نفســه. أول هــذه الأضــلاع هــو منظومــة الحوكمــة العالميــة، أي المؤسســات والقواعــد التــي حكمــت تفاعــلات الاقتصــاد الدولــي فــي العقــود الأخيــرة.

وبالرجــوع إلــى الفلســفة النيوليبراليــة التــي جســدتها هــذه المؤسســات والقواعــد، نجــد أن الهــدف الأساســي منهــا كان حمايــة رأس المــال، والملكيــة الخاصــة مــن تبعــات ظهــور الــدول القومية وتيــار التأميــم الســاعي لســيطرة الدولــة القوميــة علــى مواردهــا ونشــاطها الاقتصــادي.

وروّج منظــرو العولمــة الاقتصاديــة فــي المؤسســات الدوليــة لمفهــوم ترابــط الاقتصــادات وتأثيرهــا المتبــادل في المســتوى العالمــي، وأن وحــدة الدراســة والفهــم يجــب أن تكــون «الاقتصــاد العالمــي» وليــست «الاقتصــاد القومــي»، ثــم دعمــوا إنشــاء مؤسســة «الجــات» التــي شــجعت الــدول علــى إلغــاء التعريفــات الجمركيــة لتعزيــز حركــة التجــارة البينيــة، وخرجــت إلــى الوجــود منظمــة التجــارة العالميــة التــي نظمــت قواعــد التعامــل الاقتصادي، بفرضهــا، ليــس فقــط «بيــن» الــدول لكــن «داخــل» الــدول أيضــاً، شــروطاً أو قواعــد كان علــى الــدول تطبيقهــا للحصــول علــى امتيــازات الانضمــام للمنظمــة. وكانــت الفكــرة الأساســية هــي عــزل القواعــد المنظمــة للاقتصــاد العالمــي عــن ضغــوط وتقلبــات السياســة الداخليــة، لكــن منظومــة الحوكمــة الاقتصاديــة تصطــدم بشــكل مباشــر مــع الضلــع الثانــي للاقتصــاد العالمــي، بحســب رودريــك، وهــو الدولــة القوميــة وســيادتها. فعلــى الرغــم مــن كل مــا يقال عن تكامــل الاقتصــاد العالمــي، مــازالــت الدولــة القوميــة هــي الوحــدة الأساســية للنظــام الدولــي. وهــي التــي تؤســس البنيــة التحتيــة التــي يعتمــد عليهــا النشــاط الاقتصــادي أصــلاً، لكن منظومة الحوكمة العالميــة حــدت مــن ســيطرتها وقدرتهــا علــى التحكــم فــي مواردها وفــي خــروج الأمــوال منهــا. وبينمــا أطلقــت عمليــة العولمــة عقــال حركــة رأس المــال، حيــث ازدهــرت الشــركات، إلا أنهــا قوضــت الأســس الاقتصاديــة للدولــة، حيــث فقــدت القــدرة علــى فــرض الضرائــب أو التعريفــات الجمركيــة بمــا يدعــم ميزانياتهــا أو يحقــق أهدافهــا داخليــاً أو خارجيــاً.

أمـّـا الضلــع الثالــث الــذي قــام عليــه النظــام العالمــي، فهــو الديمقراطيــة السياســية، وقد عملت الدول الغربية على نشرها كصنــو لليبراليــة الاقتصاديــة، اعتقــاداً بأن ذلك يمثل ضمانة للســلم العالمــي، حيــث إن الــدول التــي تتشــارك فــي المصالــح الاقتصاديــة والقيــم السياســية لا تلجــأ للحــروب لكــن تفاعــلات العولمــة جعلــت مــن العمليــة الديمقراطيــة عامــلاً «مقــوضاً» للتعــاون العالمــي وليــس داعماً لــه. فمــن ناحيــة، مــن المفتــرض أن يعطــي النظــام الديمقراطــي الناخبيــن الســلطة علــى القــرارات المؤثــرة في حياتهــم، مــن خــلال رقابتهــم علــى حكومــات ومؤسســات تشــريعية منتخبــة. لكــن المؤسســات التــي حكمــت عمليــة العولمــة الاقتصاديــة ووضعــت قواعدهــا لــم تكــن منتخبــة، بــل كانــت مؤسســات «فــوق قوميــة»، معزولــة عمــداً عــن تفاعــلات السياســة الداخليــة.

وعندمــا بــدأت الآثــار الســلبية للعولمــة فــي الظهــور، كان مــن الطبيعــي أن تثــور الفئــات المتضــررة علــى هــذه المنظومــة، وعلــى قياداتهــا السياســية الوطنيــة التــي وافقــت عليهــا وكرســت لاســتمرارها.

وكان هــذا بالفعــل مــا حــدث، ففــي أوروبــا، تصاعــد الغضــب الشــعبي ضــد مؤسســات الاتحــاد الأوروبــي، التــي هــي أيضــاً «فــوق قوميــة»، وسياســاتها، مــا انعكــس فــي هزائــم انتخابيــة متواليــة للأحــزاب التــي دعمــت عمليــة الاندمــاج الأوروبــي. كمــا تعــرض مبــدأ حريــة حركــة الأفــراد، إحــدى الحريــات الأساســية للاتحــاد الأوروبــي، لهجــوم شــديد فــي إطــار رؤيــة أن الوافديــن يزاحمــون أبنــاء البلــد «الأصلييــن» فــي الحصــول علــى الوظائــف المتاحــة، وعلــى الخدمــات الصحيــة والاجتماعيــة التــي تقدمهــا الدولــة. وقــد جــاء التصويــت البريطانــي للخــروج مــن الاتحــاد لمبــدأ «اســتعادة الســيادة» علــى الحــدود ومــن الأوروبــي انتصــارا يعبرهــا.

وفــي الولايــات المتحــدة، أدى نقــل الكثيــر مــن الصناعــات الأميركيــة خــارج البــلاد إلــى انهيــار مجتمعــات محليــة، بحيــث حلــت البطالــة وإدمــان المســكنات المعروفــة باســم «الأوبيويــدز»، مــكان

الازدهــار الاقتصــادي، وتداعــت البنيــة التحتيــة الأميركيــة مــع تراجــع دخــل المحليــات مــن الضرائــب التــي كانــت تولدهــا هــذه الشــركات. وقــد كان الغضــب الــذي ســاد هــذه المجتمعــات هــو القــوة الدافعــة التــي صعــدت بترامــب إلــى ســدة الحكــم، والتــي دفعتــه لأن يضغــط علــى الشــركات الأميركيــة لخلــق فــرص عمــل جديــدة فــي الداخــل الأميركــي، فــي محاولــة لإعــادة فــرض ســيادة الدولــة علــى النشــاط الاقتصــادي.

تحديات التعاون الدولي

كان حلــول الذكــرى الـ75 لمؤتمــر بريتــون وودز، الــذي عقــد فــي يوليــو 1944، مناســبة لتقييــم أداء النظــام الاقتصــادي العالمــي الــذي وضــع المؤتمــر اللبنــات الأولــى لــه، واســتعراض التحديــات التــي تواجهــه. وقــد أصــدرت لجنــة بريتــون وودز بهــذه المناســبة إصــداراً يضــم 50 مقــالاً

لكبــار الاقتصادييــن، ومنهــم بــول فولكــر، الرئيــس الســابق للبنــك الفيدرالــي الأميركــي، ونيكــولاس ســتيرن، أســتاذ الاقتصــاد مــن مدرســة لنــدن للاقتصــاد وغيرهــما. وجــدت المقــالات فــي أداء النظــام الكثيــر ممــا يجــب الاحتفــاء بــه.

فبينمــا تضاعــف عــدد ســكان العالــم ثلاث مــرات منــذ عــام 1950، فــإن مســتوى دخــل الفرد عالمياً تضاعــف أربــع مــرات، كمــا انخفــض عــدد الذيــن يعيشــون علــى أقــل مــن دولارين فــي اليــوم حــول العالــم مــن نحو 75% فــي عــام 1950 إلى 10% في عام 1917، وتضاعــف حجــم التجــارة العالميــة 39 مــرة فــي الفتــرة نفســها.

لكــنّ هنــاك شــكوكاً واســعة حــول قــدرة الاقتصــاد العالمــي بنظامــه الحالــي فــي مواصلــة تحقيــق مثــل هــذه النتائــج الإيجابيــة.

وتُعــد معــدلات النمــو الضعيــف التــي تــؤزم الاقتصــاد العالمــي ككل، والاقتصــادات الغربيــة بشــكل خــاص، منــذ انــدلاع الأزمــة المالية في عام 2009، مؤشراً قوياً علــى ذلــك.

وعلــى الرغــم مــن تراجــع معــدلات البطالــة بشــكل واضــح فــي أكبــر الاقتصــادات الغربيــة، الولايــات المتحــدة، فــإن القــدرة الشــرائية لقطاعــات مجتمعيــة واســعة مــازالــت ضعيفــة، حيــث تظهــر اســتطلاعات الــرأي أن أغلبيــة الشــعب الأميركــي يواجــه مشــكلة فــي مواجهــة التزاماتــه الماليــة.

ويعكــس الاتجــاه إلــى الاندمــاج أو الاســتحواذ بيــن الشــركات، بمــا يكــرس لنمــوذج احتــكاري مــن قبــل شــركات كبــرى معــدودة علــى النشــاط الاقتصــادي بمختلــف أفرعــه، ضعــف قــدرة النظــام الرأســمالي الحالــي علــى توليــد الأربــاح. فمن المفتــرض أن حرية الســوق تقــوم علــى المنافســة، التــي هــي فــي مصلــحة المســتهلك، لكــن الشــركات الكبــرى تقــاوم فــي الواقــع ظهــور منافســين، وتعمــد إلــى الاســتحواذ عليهــم، حتــى تحافــظ علــى هامشــها الكبيــر مــن الربــح، وذلــك علــى حســاب المجتمــع.

ونتيجــة لهــذا الوضــع، اتســعت الهــوة بشــكل واضــح بيــن الفئــة الصغيــرة المســتفيدة مــن النمــوذج الاقتصــادي الحالــي وبقــية فئــات المجتمــع، التــي فقــدت الثقــة بقــدرة هــذا النمــوذج علــى تحقيــق مــا يكفــي مــن الفوائــض ليلبــي احتياجاتهــا، وفــي توفيــر فرصــة عادلــة للأجيــال الجديــدة لارتقــاء الســلم الاجتماعــي والاقتصادي، وتحقيــق حيــاة أفضــل. وتعكــس البيانــات الاقتصاديــة اتســاع هــذه الهــوة، حيــث تظهــر أن فئــة لا يتجــاوز حجمهــا 0.1% مــن الشــعب الأميركــي تتحكــم في مــا يقــرب مــن خمــس ثــروة البــلاد، أو مــا يســاوي مــا يمتلكــه 90% من الشعب الأميركــي.

فــي هــذا الإطــار، تصاعــدت الأصــوات المناديــة بفــرض ضريبــة علــى الثــروة، وعلــى شــركات التكنولوجيــا الكبــرى التــي لا تســهم فــي دعــم الاقتصــاد القومــي. وربمــا يمثــل تصاعــد مطالبــات كبــار المســتفيدين مــن هــذا النظــام أنفســهم بضــرورة أخــذ المبــادرة لمواجهــة هــذا الوضــع أبلــغ دليــل علــى إحساســهم بــأن النظــام الحالــي غيــر قابــل للاســتمرار.

وكانــت آخــر مبــادرة مــن هــذا النــوع الخطــاب المفتــوح الــذي وقعه 18 مــن كبــار الأغنيــاء الأميركييــن فــي يونيــو 2019، والــذي ينــادون فيــه بفــرض ضرائــب علــى ثــروات «فئــة فــي الولايــات المتحــدة». وتضمنــت قائمــة الموقعيــن جــورج

ســوروس، وكريــس هيــو أحــد مؤسســي شــركة فيــس بــوك.

يقــول الخطــاب «إن علــى الولايــات المتحــدة مســؤولية أخلاقيــة واقتصاديــة لفــرض ضريبــة علــى ثرواتنــا، التــي مــن الممكــن أن تســهم فــي مواجهــة تداعيــات الأزمــة المناخيــة، وتحســين الأحــوال الاقتصاديــة والخدمــات الصحيــة، وتوفيــر فــرص أكثــر عدالــة».

مستقبل النظام الاقتصادي العالمي

لا شــك في أن النظــام الــذي حكــم تفاعــلات الاقتصــاد العالمــي فــي العقــود الأخيــرة يواجــه تحديــات عدة، تطــرح تســاؤلات حــول إمكانيــة اســتمراره بــلا تغييــر، خصــوصاً فــي ظــل حالــة مــن تعدديــة البدائــل المطروحــة علــى الســاحة. فكمــا عــرف العالــم «توافــق واشــنطن» الــذي ســاد فــي العقــود الماضيــة أصبــح هنــاك الآن نمــوذج بديــل، هــو نمــوذج التنميــة الصينــي، الــذي أثبــت كفاءتــه فــي انتشــال ملاييــن البشــر مــن براثــن الفقــر، وفــي الصعــود بدولــة فقيــرة وناميــة إلــى قمــة الاقتصــاد العالمــي، مــا يجعلــه نموذجاً جذاباً للــدول الناميــة فــي مختلــف أنحــاء العالــم، خصــوصاً أنــه يســتند إلــى البراغماتيــة والمصلحــة المشــتركة فــي ترويجــه، ولا يتطــرق إلــى ضــرورة اعتنــاق قيــم سياســية معينــة. ويدلــل مشــروع الحــزام والطريــق علــى جديــة الصيــن فــي نشــر هــذا النمــوذج، وتشــكيل العلاقــات والتحالفــات التــي تدعــم صعودهــا كدولــة كبــرى.

ويذهــب بعــض المحلليــن إلــى أن شــركات التكنولوجيــا العملاقة تطرح أيضاً الآن رؤيــة مختلفــة لتنظيــم التفاعــلات الاقتصادية العالمية.

ولا شــك فــي أن هــذه الشــركات أصبحت فاعــلاً رئيســاً علــى الســاحة العالميــة، وتطمــح إلى أن تلعــب أدواراً كانــت تقــوم بهــا مــن قبــل مؤسســات دوليــة أو حكومــات، فقــد طرحــت بعضهــا رؤى جديــدة عــن كيفيــة حوكمــة الإنترنــت.

كمــا دخــل «فيــس بــوك» مجــالات كانت حكــراً على الحكومات من قبل بإعــلان النيــة لطــرح عملــة رقميــة عالميــة.

مــن جانــب آخــر، يــرى بعــض المحلليــن أن الخطــر قائــم فــي أن ينقســم الاقتصــاد العالمــي إلــى مناطــق نفــوذ، تحيــط بالقــوى الاقتصاديــة الكبــرى، التــي تتمثــل فــي الولايــات المتحــدة والصيــن والاتحــاد الأوروبــي. وفــي إطــار التنافــس وتراجــع منــاخ الانفتــاح والتعــاون الدولــي، ستســعى كل مــن هــذه القــوى إلــى حمايــة مصالحهــا الاقتصاديــة مــن خــلال إجــراء اتفاقيــات تجاريــة مــع الــدول الأصغــر والأضعــف المحيطــة بهــا.

وتمنــح الاتفاقيــات القــوى الكبــرى معاملــة تفضيليــة فــي ترويــج ســلعها أو الحصــول علــى المــواد الأوليــة، كمــا تمنــع فــي الوقــت نفســه القــوى المنافســة مــن تحقيــق وجــود اقتصــادي فــي دائــرة نفوذهــا. وبينمــا تبــدو هــذه منافســة اقتصاديــة فــي الأســاس، فــإن مخاطــر انزلاقهــا إلــى مواجهــات عســكرية تصبــح كبيــرة، عندمــا تشــعر هــذه القــوى بــأن إقصاءهــا مــن مناطــق معينــة يهــدد مصالحهــا.

ولهــذا الســبب، يدفــع معظم المحللــين إلى أهميــة الحفاظ علــى التداخــل الاقتصــادي الحالــي كأحــد أفضــل الدفاعــات عــن الســلم العالمــي.

كارن أبوالخير مستشار الشؤون الدولية بمركز


النظــام الــذي حكــم تفاعــلات الاقتصــاد العالمــي فــي العقــود الأخيــرة يواجــه تحديــات عدة، تطــرح تســاؤلات حــول إمكانيــة اســتمراره بــلا تغييــر، خصــوصاً فــي ظــل حالــة مــن تعدديــة البدائــل المطروحــة علــى الســاحة.

تمتعــت الولايــات المتحــدة بالصــدارة علــى الســاحة الدوليــة إلــى حــد كبيــر لأنهــا خرجــت مــن الحــرب العالميــة الثانيــة بقاعــدة اقتصاديــة قويــة، بينمــا دمــرت القواعــد الإنتاجيــة لــكل الــدول الأخــرى التــي انخرطــت فــي هــذا النــزاع.

الشــركات الأميركيــة لها علاقــات ومصالــح مــع دول أجنبيــة، ومنهــا الصيــن، لا تمــر عبــر بوابــة الدولــة، قــد لا تتســق فــي كثيــر مــن الأحيــان مــع رؤيــة مؤسســات الدولــة الأميركيــة لهــذه المصالــح.

هــذه العلاقــات الخارجيــة تتــم فــي إطــار منظومــة «الحوكمــة العالميــة»، التــي تتحكــم فيهــا وترســي قواعدهــا مؤسســات دوليــة، خــارج إطــار العلاقــات الثنائيــة بيــن الــدول فــي شــكلها التقليــدي.

تويتر