بعد تسريب برقية السفير البريطاني لدى أميركا

المخاوف من البرقيات المســرّبة يعيق السفراء عن تقديم معلومات دقيقة إلـى حكوماتهم

صورة

استقالة السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة، كيم داروش، بسبب انكشاف برقيته السرية التي ينتقد فيها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وما تلاها من هجوم مدوٍّ من قبل ترامب عليه، يمكن أن تجعل الدبلوماسيين الأجانب يفكرون مرتين قبل أن يقدموا تقارير أمينة عن إدارة ترامب إلى حكوماتهم.

وكان داروش قد وصف في إحدى مذكراته، التي تم تسريبها، أن ترامب «أحمق ومغرور». ورد ترامب بعد وصول المذكرة المسربة إلى البيت الأبيض بأن «السفير غريب الأطوار الذي أرسلته بريطانيا إلى الولايات المتحدة ليس شخصاً يثير إعجابنا، إنه شخص غبي جداً». وكان داروش حتى الأسبوع الماضي يستضيف كبار مسؤولي إدارة ترامب في حفلات عشاء، لكنه استقال بعد الهجوم الذي تعرض له من ترامب.

ووجد مبعوث المملكة المتحدة إلى واشنطن، الذي ظل يعمل في منصبه منذ عام 2016، نفسه في الطرف الآخر لتغريدة لاذعة من الرئيس الأميركي بعد تسرب تقييمات سرية بعث بها إلى لندن، تلقي ضوءاً سالباً على الأنشطة الداخلية لإدارة ترامب. وخلافاً للمواجهات على «تويتر» بين ترامب ووزير الخارجية البريطاني، جيرمي هانت، فإن تسريب مجموعة كبيرة من البرقيات الدبلوماسية يمكن أن يكون له تأثيرات دائمة أخرى، ما قد يؤثر بالتالي في توخي الدبلوماسيين الدقة والأمانة خلال تقييماتهم وتوصياتهم السياسية.

وتقول الباحثة بمعهد بروكينجز والمسؤولة السابقة بوزارة الخارجية الأميركية، أماندا سلات، إن «تسرب البرقيات له تأثير مخيف على ما يريد الدبلوماسيون كتابته وإرساله إلى حكوماتهم» وتضيف قائلة: «أنا متأكدة من أن الدبلوماسيين البريطانيين في السفارات حول العالم سيواجهون الآن مخاوف مماثلة بشأن القضايا التي يكتبونها في برقياتهم ويرسلونها إلى لندن».

تعطيل الدور

وقدم داروش استقالته في رسالة إلى وكيل وزارة الخارجية البريطانية والكومنولث، سايمون ماكدونالد، قائلاً إن «الوضع الحالي يجعل من المستحيل بالنسبة لي أن أؤدي دوري كما أريد».

وكانت الولايات المتحدة أيضاً إحدى ضحايا فضيحة مشابهة جداً لفضيحة داروش، وإن كان ذلك على نطاق أوسع، عندما سربت «ويكيليكس» حجماً كبيراً من وثائق وزارة الخارجية في عام 2010. وكشفت التسريبات في العلن كيف يشعر السفراء الأميركيون بشأن الحكومات المضيفة لهم، وألقت الضوء على الأعمال الداخلية للدبلوماسية الأميركية، كما أشعلت تلك التسريبات عاصفة دبلوماسية في جميع أنحاء العالم أثرت كثيراً على وزارة الخارجية الأميركية.

وتقول المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية، التي كانت تعمل في واشنطن وقت تسريب «ويكيليكس» لتلك البرقيات، نانسي ماك الدوني، إن أمرين قد حدثا بعد تسرب البرقيات: «الأول كان فورياً، والثاني جاء كردّ فعل».

واستدعت جميع الدول سفراء الولايات المتحدة الذين تستضيفهم لتستفسر عنهم بشأن تلك البرقيات «غير الدبلوماسية» التي يرسلونها لبلادهم. فقد وصف سفير الولايات المتحدة لدى إريتريا، رونالد ماكمولين، رئيس البلاد بأنه «ديكتاتور غير متماسك، ولايزال قاسياً ومتحدياً»، ووصف مسؤول كبير آخر بوزارة الخارجية الاميركية يعمل في إيطاليا رئيس الوزراء الايطالي آنذاك، سيلفيو برلسكوني، بأنه «عديم الجدوى، ولا طائل من ورائه، وغير فعال بوصفه زعيماً أوروبياً حديثاً»، ما أثار عاصفة سياسية في روما وسبب صداعاً لواشنطن.

وتعرضت السفيرة الأميركية لدى الإكوادور، هيذر هودجز، للطرد في عام 2011 بعد أن تسربت برقية لها تنتقد فيها الفساد الحكومي، وأجبر السفير الأميركي في المكسيك، كارلوس باسكوال، على ترك عمله. وتقول ماك الدوني: «لقد كان الأمر مؤلماً، ومحرجاً، لكننا استطعنا أن نتجاوزه».

رقابة ذاتية

وتمضي قائلة: كان التأثير الثاني، في الواقع هو الرقابة الذاتية التي فرضها الدبلوماسيون على ما يكتبون، حيث بدأ بعض الدبلوماسيين الذين يشعرون بالقلق من المزيد من التسريبات يتخلصون من مخاوفهم بتجميل ما تفعله الحكومات الأجنبية أو الزعماء في برقياتهم التي يرسلونها للوطن، تاركين لواشنطن صورة أكثر غموضاً لما يجري في تلك الدول. وتقول ماك الدوني، التي تعمل الآن بجامعة جورج تاون: «إذا توقف السفراء عن تدوين الأشياء وتحدثوا بدلاً من ذلك بالهاتف إلى شخص واحد، فإن هذا يعطل بقية الأجهزة»، وتمضي قائلة: «يحتاج الآخرون إلى قراءة هذه البرقيات، هناك ضباط بالمكتب، ونائب سكرتير مساعد، وغيرهم في الحكومة، الذين يحتاجون إلى فهم ما يقوله السفير». من الناحية الثانية، بدأ السفراء الأميركيون يفقدون نفوذهم في البلدان التي يعملون فيها، ما حد من فاعليتهم. هذا المصير نفسه قد يصيب داروش في واشنطن لو بقي في وظيفته.

تعطيل الفاعلية

وتقول سلات: «حتى لو لم يتم إجباره رسمياً على ترك منصبه، فإن كبار المسؤولين الأميركيين لن يستطيعوا التعامل مع داروش، وهذا سيحد من فاعليته سفيراً». وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، مورغان أورجتوس، للصحافيين، الأسبوع الماضي، إن الوزارة لم تتلقَّ أي توجيهات رسمية من البيت الأبيض لوقف التعامل مع داروش. وقالت «سنواصل التعامل مع جميع الأفراد المعتمدين لدينا إلى أن تصلنا توجيهات إضافية من البيت الأبيض أو الرئيس». ويقول بعض الخبراء إن الوثائق الحكومية التي تم تسريبها لها قيمة عامة مهمة، على الرغم من أنها وضعت الدبلوماسيين في المقعد الساخن. ويقول المدير التنفيذي والرئيس التنفيذي لمشروع محاسبة الحكومة، لويس كلارك، وهي منظمة غير ربحية تركز على المبلغين عن المخالفات والحكومة: «من المهم للغاية معرفة ما تفكر فيه الحكومة البريطانية بشأن إدارة ترامب، لأن ذلك مهم جداً للناخبين على وجه الخصوص، وهو الشفافية، نحن بحاجة إلى معرفة ما يفكر فيه بالفعل القادة الآخرون والدبلوماسيون الأجانب في العالم بشأن الرئيس».

من جانبه، أوضح ترامب آراءه عن داروش بوضوح شديد في سلسلة من التغريدات يومي الإثنين والثلاثاء من الأسبوع الماضي، وانتقد ترامب داروش، واصفاً إياه بأنه «أحمق» و«رجل غبي جداً». ووصف داروش ترامب بأنه «أخرق وغير كفء» في البرقيات السرية، التي نشرتها الصحيفة البريطانية «ديلي ميل»، خلال عطلة نهاية الأسبوع.

ودافعت الحكومة البريطانية عن داروش، وأبلغ وزير الخارجية البريطاني، جيريمي هانت، ترامب على «تويتر» أن «هذه التعليقات غير محترمة وتمس برئيسة وزرائنا». هانت، الذي يتصارع مع وزير الخارجية السابق، بوريس جونسون، بشأن من سيخلف تيريزا ماي في منصبها، قال إن داروش سيظل في منصبه إذا أصبح هو رئيساً للوزراء. وتسببت هذه الزوبعة في مزيد من الهزات للعلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي كانت متوترة بالفعل بسبب الخلافات حول سياسة إيران، وانتقاد ترامب لمعاملة ماي لمفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ويقول الباحث في العلاقات عبر المحيط الأطلسي في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إريك براتبرغ، وهي مؤسسة بحثية، إن تسرب برقيات السفارة لن يسبب ضرراً بليغاً للعلاقات بين لندن وواشنطن. ويضيف «سيؤدي ذلك إلى مزيد من الضرر للعلاقة سياسياً، ولكن خارج السياسة، لاتزال العلاقة الخاصة قوية للغاية في ما يتعلق بالأمن والقضايا العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ولن تتضرر أساسيات العلاقة الخاصة».

ويقول العديد من الدبلوماسيين الأميركيين الحاليين والسابقين الذين تحدثوا إلى «فورين بوليسي» إن هناك مفارقة في توبيخ الرئيس الأميركي لدبلوماسي أجنبي بسبب انتقاداته له في برقية سرية، لأن ترامب نفسه ينتقد الزعماء الأجانب في العلن واصفاً إياهم بـ«المخادعين والضعفاء». وأشاروا إلى واقعة عمدة لندن، صادق خان، الذي وصفه ترامب بـ«الخاسر». وتقول ماك الدوني: «ما فعله ترامب خلال رد فعله هو دليل على صحة كل ما كتبه السفير البريطاني عنه».

لم يكن رد فعل جميع القادة الأجانب على التسريبات الدبلوماسية ضدهم مثل ما فعل ترامب. في عام 2009، اضطرت النرويج للسيطرة على الأضرار السياسية بعد مذكرة سرية قاتلة من نائبة سفيرها لدى الأمم المتحدة، منى جويل، تنتقد فيها الأمين العام في ذلك الوقت، بان كي مون، وتصف قيادته بـ«الضعيفة وغير الفعالة»، حيث تسربت هذه البرقية إلى الصحافة. وقال بان بعد نشر المذكرة: «من حيث المبدأ، أرحب بكل هذه الانتقادات عندما تكون بناءة لأنها تساعدني في تحسين عملي وأدائي».


حتى لو لم يتم إجبار داروش رسمياً على ترك منصبه، فإن كبار المسؤولين الأميركيين لن يستطيعوا التعامل معه ، وهذا سيحد من فاعليته سفيراً.

لم يكن رد فعل جميع القادة الأجانب على التسريبات الدبلوماسية ضدهم مثل ما فعل ترامب.

تويتر