إعلانها التخلي عن قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي يمثل بداية لنهاية حقبة مهمة

ميركل تمنح اليمين المتطرف فرصة لتـــأسيس نفسه بقوة في السياسية الألمانيــة

صورة

بوصفها رئيسة أكبر حزب سياسي في ألمانيا على مدى 18 عاماً، ولأنها ظلت تقود البلاد على مدى 12 عاماً، استطاعت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، أن تشكل ألمانيا الحديثة أكثر من أي زعيم آخر جاء في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك فإن إعلانها التخلي عن قيادة حزبها الديمقراطي المسيحي في ديسمبر، ونيتها عدم سعيها لولاية أخرى في الانتخابات الفيدرالية المتوقع إجراؤها في عام 2021، يمثل بداية لنهاية حقبة مهمة في ألمانيا.

وبما أن ميركل ظلت تمثل حجر الزاوية في استقرار البلاد، فإن المتطرفين السياسيين ينتظرون على أحر من الجمر رحيلها، ولهذا من الطبيعي أن نتساءل: كيف ستتغير البلاد في السنوات التالية لرحيل ميركل؟ هل سيتجه الحزب الديمقراطي المسيحي نحو اليمين بعد أن تغادر زعيمته مسرح الأحداث السياسية؟ وهل يستطيع حزب البديل اليميني المتطرف، الذي وضع نفسه بالفعل كقوة رئيسة في السياسة الألمانية، أن يستغل لمصلحته فراغ السلطة الذي تتركه ميركل وراءها؟ أم هل سيساعد تغيير السياسيين بالفعل على تهدئة الغضب الذي أشعلته ميركل بشكل متزايد في السنوات الماضية؟

هذه كلها أسئلة تهم مستقبل البلاد المتوقع، ولكي نفهم المأزق السياسي الذي تجد ألمانيا نفسها فيه الآن، ولكي نخمن بطريقة مدروسة إلى أي مدى يغير رحيل ميركل البلاد، فمن الضروري أولاً أن نفهم الإرث الذي خلّفته وراءها.

عندما تعرض الحزب الديمقراطي المسيحي لفضيحة مالية في أواخر التسعينات، أُضطر زعيمه آنذاك، فولفجانغ شويبله، للاستقالة، وكان كثير من كبار رجال الحزب الآخرين ملوثين للغاية بالفساد لتولي المنصب. استغلت ميركل هذه الفرصة من خلال مزيج مميز من القسوة والضعف: لم تكن ملوثة بالفضيحة، لأنه لا يمكن لأحد أن يتخيل أن الحرس القديم كان سيسمح لها بالدخول في صفقاته المالية غير المشروعة، وفازت ميركل بالمهمة، على عكس منافسيها، وتمكنت من إقصاء كول بعد اتهامه بالفساد أيضاً.

طريقة وصول ميركل إلى قيادة الحزب في عام 2000 عكست أسلوبها في الحكم بمجرد أن أصبحت أول مستشارة لألمانيا بعد خمس سنوات من ذلك. وتتميز بتكتيك فريد من نوعه، وتستطيع أن تقرأ نقاط ضعف منافسيها. وخلافاً لنظرائها من رؤساء الحكومات، فإنها نادراً ما تخوض في نقاش مثير للجدل إلى أن تدرك في أي اتجاه يذهب الرأي العام، وبعد ذلك تتصرف بطريقة حاسمة (كما فعلت عندما حسمت أمر كول). وعلى الرغم من أن لديها التزاماً حقيقياً ومخلصاً للمبادئ التي توجه سياسات الجمهورية الفيدرالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ــ المتمثلة في الديمقراطية، وحكم القانون، والإيمان الغريزي بالمشروع الأوروبي - فقد كان هناك شيء واحد لم يلعب دوراً فعلياً في صعودها السياسي، وهو رؤية سياسية حقيقية خاصة بها.

ونتيجة لذلك، فإن الإرث الذي خلّفته ميركل متناقض إلى حد كبير. فقد حكمت البلاد بهدوء، وبكفاءة عظيمة، واتخذت طريقاً وسطياً يعكس مزاج الجمهور خلال السنوات الأولى من ولايتها. فقد اكسبها التزامها الصادق بقيم الديمقراطية الليبرالية جاذبية واسعة، بل اجتذبت على مضض إعجاب الكثيرين من اليسار، خصوصاً عندما واجهت صعود الشعبوية اليمينية، المتمثلة في حزب البديل لألمانيا في الداخل، وظهور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الخارج، وأصبحت رمزاً للقيم الليبرالية، للدرجة التي ذهب فيها البعض لتسميتها بالزعيمة الجديدة للعالم الحر.

ويخشى أكثر من محلل أن يحكم التاريخ على ميركل بشكل أكثر قسوة مما يتخيله معظم الناس اليوم. ورغم أنها كانت رائعة ومثيرة للإعجاب، إلا أنها فشلت في تحقيق استجابة مرضية للأزمات الرئيسة الثلاث التي واجهتها أوروبا خلال العقد الماضي. وأدى ترددها في إصلاح الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بأزمة اليورو إلى إطالة أمد أزمة أوروبا الاقتصادية، التي جعلت العملة الموحدة عرضة للهزات الاقتصادية في المستقبل. وأدى فشلها في توضيح منهجها في أزمة اللاجئين لمواطنيها إلى تضخيم ردة فعلهم العنيفة حيال الأجانب، وسمحت لحزب متطرف بالسيطرة على النظام السياسي في ألمانيا، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أن عدم رغبتها في مواجهة الشعوبيين الاستبداديين في بولندا وهنغاريا أضعف بالفعل الديمقراطية في وسط أوروبا، الأمر الذي يشكل تهديداً وجودياً لبقاء الاتحاد الأوروبي.

أزمة اليورو التي هيمنت على السياسة الأوروبية في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 كشفت عن خلل هيكلي عميق في بناء منطقة العملة الموحدة، وعلى المدى الطويل، تحتاج المنطقة إلى سياسة مالية واقتصادية مشتركة للحفاظ على مشروع اليورو. ويواجه السياسيون الأوروبيون خياراً لا يحسدون عليه، فإذا شعروا بأنهم في حاجة إلى خطوة كبيرة وطموحة نحو توحيد أكبر قد تعارض شعوب القارة مثل هذه الخطوة، أو قد يكونون بحاجة لإيجاد طريقة لتفكيك اليورو، أو على الأقل طرد أضعف الأعضاء فيه، دون التسبب في معاناة اقتصادية هائلة.

ومع استمرار الأزمة، ارتفعت الأصوات بشكل متزايد في ألمانيا وخارجها بضرورة إيحاد حل أو آخر لهذه الأزمة، وعلى غرار أسلوبها المعتاد، اختارت ميركل لعبة الانتظار التكتيكية، غير راغبة في القيام بإصلاحات هيكلية طموحة، أو دفع البلدان المدينة في جنوب أوروبا للخروج من اليورو، ووافقت على مضض على سلسلة من حزم الإنقاذ، التي كانت كبيرة بما يكفي لتفادي كارثة وشيكة.

وحددت على المدى القصير مسار عملها، حيث لم تتخل اليونان، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال عن اليورو، ولم تؤثر الكارثة المالية بعد في القارة، ومع ذلك، فإن تكاليف استراتيجيتها طويلة الأجل - أو بالأحرى افتقارها إلى استراتيجية - كانت مؤثرة للغاية، ما تمخض عنه عقد من التقشف، الذي أدى إلى تراجع الأداء الاقتصادي بشكل مصطنع في جنوب أوروبا، وأجبر ملايين الشباب الأوروبيين على الهجرة أو الوقوع في براثن العطالة. وأدى الإحساس بأن ألمانيا تتخذ قرارات اقتصادية بشأن اليونان وإيطاليا إلى استياء هائل في تلك البلدان.

واستطاعت ميركل أن تصحح مسارها من خلال أسلوبها البراغماتي. وفي حين رفضت بثبات اعتماد حد أقصى لعدد اللاجئين الذين ستستقبلهم البلاد، فقد عقدت سلسلة من الصفقات مع اليونان وتركيا، ما جعل من المستحيل على معظم المهاجرين الوصول إلى الأراضي الألمانية. ولم يتكرر التدفق الذي شهدته ألمانيا في صيف عام 2015 مرة أخرى منذ ذلك الحين.

ولكن حتى عندما كانت ميركل تفعل ما بوسعها لوقف تدفق اللاجئين، فقد رفضت أن تعكس مسارها علناً أو تدخل في جدل صريح بشأن التحديات التي يفرزها وصول القادمين الجدد. ووفر هذا التحفظ فرصة لأقصى اليمين لإذكاء مخاوف المواطنين العاديين. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن آراء معظم الألمان تباينت بحدة حول كيفية التعامل مع أزمة اللاجئين. وكان لدى المستجيبين تعاطف حقيقي مع الأشخاص الفارين من المذابح في سورية، وكانوا فخورين بالاستجابة الإنسانية لألمانيا، لكنهم قلقون أيضاً من أن استمرار التدفق قد لا تمكن السيطرة عليه، وأنهم اضطلعوا على تقارير عن جرائم خطرة. فإذا كانت ميركل قد أكدت لمواطنيها أن صيف 2015 لن يتكرر، وتحدثت بصراحة عن الفشل المؤسسي الذي سمح لبعض المجرمين بأن يفلتوا من العقاب، فقد أعاقت الارتفاع السريع لليمين المتطرف، لكنها بدلاً من ذلك، لم توضح أبداً رؤيتها لمستقبل سياسة اللاجئين في البلاد. وقد يزعم اليمين أنها سعت إلى «استبدال» سكان ألمانيا باللاجئين، أو أن ساسة التيار الرئيس أصبحوا غير راغبين في الاستجابة للمخاوف المتزايدة بشأن الجرائم الجنسية، أو أنهم لم يتعاملوا معها بشكل جدي. لكل ذلك تمكن حزب يميني متطرف، للمرة الأولى منذ عام 1945، من تأسيس نفسه كقوة رئيسة في السياسة الألمانية.

إثارة للإعجاب

تعتبر ميركل واحدة من أكثر السياسيين إثارة للإعجاب، وأقدر شخصية قادت ألمانيا منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وُلدت في هامبورغ، لكنها نشأت في شرق البلاد، والدها رجل دين، تعرضت لثلاث تجارب مريرة: كانت عضواً في حزب يهيمن عليه الألمان الغربيون، وظلت تعيش تحت نير النظام الشيوعي حتى سن الـ35، وكانت بروتستانية في حزب يهيمن عليه الكاثوليك تاريخياً. اتخذت المستشار الراحل، هيلموت كول، مرشداً لها في الحزب، وكان يناديها في كثير من الأحيان بـ«طفلتي الصغيرة» في أوائل التسعينات. وبشكل عام، من غير المستغرب أن يقلل من شأنها أصدقاؤها وخصومها منذ أيامها الأولى في السياسة.

- ميركل تستطيع أن تقرأ نقاط ضعف منافسيها. خلافاً

لنظرائها من رؤساء الحكومات، فإنها نادراً ما تخوض

في نقاش مثير للجدل إلى أن تدرك في أي اتجاه

يذهب الرأي العام، وبعدها تتصرف بطريقة حاسمة.

تويتر