يعاني اضطراباً سياسياً مستعراً

أخطاء واشنطن في العراق ولّدت حالة حرب أبدية فيه

تظاهرات في جنوب البصرة تؤكد رفض العراقيين لتدخل إيران وأميركا معاً في شؤونهم. أ.ف.ب

كانت البصرة ذات يوم تعرف بـ«فينسيا الشرق»، إذ إنها كانت مدينة جميلة، فيها الكثير من الأقنية، وتقع على الخليج العربي. ولكن في السابع من سبتمبر الماضي، ابتليت بالتظاهرات الغاضبة، التي تحول بعضها إلى أعمال عنف، نجم عنها مقتل نحو 10 أشخاص، قبل فرض بعض الإجراءات التي أدت إلى عودة الهدوء بعد يومين من ذلك.

وفي الواقع، فإن مظالم المتظاهرين عديدة، فعلى الرغم من أن هذه المنطقة تحتوي على 70% من نفط العراق، إلا أن 50% من سكان المدينة يعيشون حالة فقر مدقع، ومعدل البطالة مرتفع جداً، والفساد مستشرٍ في الحكومة المحلية، كما أن أساسيات العيش، مثل الكهرباء المتواصلة، غير متوافرة، وهي حاجة ضرورية عندما ترتفع درجات الحرارة إلى معدلات قياسية، كما أن مياه الشرب النظيفة غير متوافرة أيضاً.

صراع قوي

وقام المتظاهرون بإشعال النار في عدد من المباني، وأشعلوا المكاتب العامة ومقار الأحزاب السياسية، وتم استهداف مبنى الدبلوماسية الأميركية الموجود في مطار البصرة بعدد من الصواريخ، ولكن لم يتم تدميره، وبخلاف ما ذكرته المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة هوكابي ساندرز، فإن إيران لم تكن مسؤولة عن هذه الهجمات على المنشآت الأميركية، إذ إن المتظاهرين أحرقوا القنصلية الإيرانية أيضاً، وهم ينشدون «إيران اخرجي من العراق». وقالت صحيفة «وول ستريت جورنال»: «تعيش المجموعات السياسية المتنافسة في العراق، المدعومة من قبل إيران والولايات المتحدة، صراعاً قوياً مع بعضها بعضاً، لأنها عاجزة عن تشكيل حكومة بعد انتخابات شهر مايو الماضي»، وتشير الاحتجاجات في البصرة إلى أن الشعب في العراق يرفض تدخل الإيرانيين والأميركيين في شؤون العراق.

وربما تكون الاضطرابات التي حدثت في البصرة غير مفاجئة بالنظر إلى الظروف المعيشية التي تواجه السكان المحليين، لكن يجب أن تكون مثمرة أيضاً. وينبغي القول إن كل هذه الأحداث تمثل تداعيات عملية تغيير النظام في العراق، و15 عاماً من التدخل فيه واحتلاله وعملية إعادة البناء. وكذلك إنفاق آلاف عدة من مليارات الدولارات، وعشرات الآلاف من الأميركيين والعراقيين الذين أزهقت أرواحهم.

اضطراب سياسي مستعر

وتمثل التظاهرات في البصرة مجرد لحظة واحدة من الاضطراب السياسي المستعر في العراق، بكل المخاطر الأمنية والمعاناة الإنسانية الناجمة عن ذلك. إنهم يشكلون لائحة اتهام ضد واشنطن، لاعتمادها الفاشل على التدخلات العسكرية، وإعادة بناء الدول كعلاج للمشكلات السياسية المحلية في بلاد بعيدة لا تهدد أمن الولايات المتحدة، ولا ازدهارها، أو طريقتها في الحياة.

وفي البصرة، والعراق بصورة عامة، اطلع الأميركيون خلال سنوات عدة على أدلة تؤكد فشل التدخل العسكري الأميركي في إنجاز نتائج استراتيجية مهمة ومستدامة، على الرغم من بذل واشنطن قصارى جهدها. وقال المؤرخ العسكري الأميركي، العقيد المتقاعد اندرو باسيفيتش «ربما يقول البعض إن بذل مزيد من الجهد، وإنفاق مزيد من المليارات، وإرسال مزيد من المعدات لـ15 عاماً أخرى، يمكن أن يعطي نتائج أفضل»، وأضاف «ولكن هذه لعبة عبثية»، إذ ليس هناك أي شيء متوافر للأميركيين في العراق يمكن تسميته نصراً، وتكرار أخطاء الماضي لن يقدم نتائج جديدة.

تغيير السياسة الأميركية

وبالنسبة لواشنطن، يجب أن تكون مراقبة أعمال الفوضى في البصرة حافزاً إضافياً للكثيرين للسعي نحو تغيير جذري في السياسة الخارجية الأميركية، وإعادة توجيهها للتركيز بصورة صارمة على الدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة، المحددة بدقة. وربما تكون هذه الأجندة غير مألوفة بالنسبة لواشنطن، بيد أنها تعكس ما يريده جميع الأميركيين. وكتب البروفسور باري بوسين، من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في شركة بوليتكو للصحافة «إلى درجة أننا يمكن أن نقرأ ذلك في مُحيا كل الأميركيين، إذ إن الكثيرين منهم كانوا يريدون الخروج من العراق عند انتخاب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهم أرادوا الشيء ذاته عند انتخاب الرئيس دونالد ترامب، وفي الحقيقة فإن إعراب الرجلين عن رفض الحرب في العراق هو سبب أساسي في نجاحهما في الانتخابات». وأضاف بوسين «بمعزل عن الآراء التي تقول إن بذل مزيد من الجهود العسكرية غير ضروري أو العكس، علينا النظر إلى ما إذا كانت هذه الآراء منسجمة مع الآراء التي تم التعبير عنها ديمقراطياً من قبل الشعب الأميركي. ومن الغريب حقاً التخلي عن نتائج الديمقراطية داخل أميركا، لمتابعة السعي غير المجدي لتحقيق ذلك في مجتمع مقسم وعنيف في الخارج».

والأميركيون على صواب عندما يطالبون بسياسة خارجية أكثر تعقلاً وواقعية، فمثل هذه السياسة من شأنها منع سفك مزيد من دماء الجنود الأميركيين، وتبذير المليارات على حروب تهدف إلى نشر الديمقراطية، وإعادة تنظيم المجتمعات، بدلاً من التركيز على حماية الأميركيين. وهذه السياسة لن تهدف إلى فرض حلول عسكرية خارجية على مشكلات سياسية داخلية في دول أخرى، وهي لن ترهق الجيش الأميركي بمهمات هي ليست من مهامه، كما أنها لا تناسبه أيضاً. ولن تسهم في زعزعة الاستقرار المحلي في منطقة الشرق الأوسط. وهذه المعاناة المتواصلة التي دفعت سكان البصرة إلى الخروج إلى الشوارع خلال الفترة الماضية تمثل تحديات صعبة، ولكنها تظل تحديات عراقية وليست أميركية.وهذه المعاناة لن تختفي بغياب تدخل الجيش الأميركي بالطبع، ولكنها لن تختفي بوجوده أيضاً، ولقد حان الوقت لرسم مسار جديد في العراق.

- معاناة العراقيين لن تختفي بغياب تدخل الجيش

الأميركي بالطبع، لكنها لن تختفي بوجوده أيضاً،

وحان الوقت لرسم مسار جديد في العراق.

- ليس هناك أي شيء متوافر للأميركيين في العراق يمكن تسميته نصراً.. وتكرار أخطاء الماضي لن يقدم نتائج جديدة.

تويتر