يسعى إلى استعادة المجد التاريخي لدولته والتوسع في الفضاء الأوراسي

السمات الفكرية لبوتين تسهم في استعادة قوة روسيا على الساحة الدولية

بوتين اكتسب سمات القيادة منذ عمله في جهاز الاستخبارات السوفييتي كي.جي.بي. إي.بي.إيه

تزعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال السنوات الماضية مشروعاً لاستعادة المكانة القيادية لدولته في النظام العالمي، ومواجهة التمدد الغربي في مناطق النفوذ التقليدي التاريخي لموسكو، ولعل هذا ما دفع العديد من الأدبيات إلى الحديث عن مقاربة جديدة للسياسة الروسية تحت اسم «البوتينية»، وتستند إلى عدد من الأفكار الرئيسة على غرار الرغبة في استعادة المجد التاريخي لروسيا، والتوسع في الفضاء الأوراسي، ومواجهة التدخل الخارجي في مناطق النفوذ الروسي عبر أدوات متعددة تقليدية وغير تقليدية، بما في ذلك الحرب المعلوماتية، فضلاً عن البُعد المحافظ في فكر بوتين.

وفي هذا الصدد، يتناول كتاب «داخل عقل فلاديمير بوتين» لميشيل التشانينوف، التوجهات السياسية للرئيس الروسي، وأهم المكونات الفكرية لهذه التوجهات، والتي تجمع بدرجة ما بين الواقعية السياسية والأفكار المحافظة، وكلاهما يتم توظيفه للتأكيد على المكانة الروسية في العالم المعاصر، ومواجهة وإضعاف القوى المناوئة لموسكو عالمياً.

التكوين الفكري والعملي

يشير التشانينوف إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم المرجعيات الفلسفية في خطاباته العامة، إلا أنه لا يصنفه كفيلسوف، إذ إن تكوينه العلمي والثقافي هو النمط الشائع في إطار المنظومة السوفييتية السابقة، فبوتين الذي درس القانون في جامعة سان بطرسبرغ الحكومية، يفضل أن يتم تذكره من خلال تاريخه في جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي)، كما أنه عادة ما يفضل الأنشطة الجسدية على الكتب والفلسفة، ويعتبر رياضة الجودو التي يمارسها بمثابة الفلسفة الحقيقية، ولاسيما أنها «تعلمنا أن نستخدم ما لدينا، ونُقدّر ما نملكه، ومن ثم فهي قوة كافية لإسقاط الخصم».

ويُضيف الكاتب أن هناك عوامل عدة أسهمت في التكوين الفكري والعملي للرئيس الروسي، منها مرحلته الدراسية التي تعلم من خلالها أسماء ومذاهب المفكرين الرئيسين، علاوة على ذلك فإن سنوات عمله داخل جهاز الاستخبارات السوفييتية أعطته خبرة عملية أكبر. ومن ثم يعتقد المؤلف أن بوتين يجسد الصفات المهنية للمنتسب إلى جهاز «كي جي بي»، خصوصاً تلك المتعلقة بـ«مهارات العمل مع الناس، ومعرفة كيفية الاستماع، وكيفية الفهم»، وقد انعكس ذلك ــ بحسب الكتاب ــ في قدرة بوتين على كسب ثقة المتحاورين معه، والتكيف المطلوب للاستجابة معهم.

وفي السياق ذاته، أثرت القيم المجتمعية التي نشأ بوتين في كنفها في تكوينه الفكري واتجاهاته السياسية، ولعل أهم هذه القيم الانتماء الوطني، وكذا الثقافة العسكرية التي ظلت سائدة عقوداً داخل الاتحاد السوفييتي السابق، إذ إن التعليم كان يتسم بالطابع العسكري، وكان الأطفال يضطرون لقراءة أدبيات الحرب كإعداد للتضحية بالنفس، وشكلت الخدمة العسكرية واحدة من أهم اللحظات في الحياة السوفييتية.

ويفترض التشانينوف أن ثمة مجموعة سياسية وفكرية ودينية تحيط بالرئيس الروسي وتؤثر بشكل أو بآخر في أفكاره وتوجهاته، والنسبة الكبرى ممن يعتمد عليهم بوتين في الحصول على المعلومات هم الأصدقاء والحلفاء من المنتمين إلى مجموعة سيلوفيكي (كلمة سوفييتية تعني الساسة من الخدمات العسكرية والأمنية)، وغالباً هم مثل بوتين من سان بطرسبرغ.

تضم المجموعة المؤثرة في سياسات بوتين أسماء من قبيل فلاديسلاف سوركوف، الذي يرجع له الفضل في صياغة مفهوم «الديمقراطية السيادية»، ويعد خبيراً في التقنيات السياسية، وهو مستشار لبوتين في الشؤون الأوكرانية، وألكسندر بورتنيكوف مدير هيئة الأمن الفيدرالية منذ عام 2008، وألكسندر باستريكين رئيس لجنة التحقيق الروسية والخبير في علم الجريمة، وإيغور سيتشين الذي يترأس شركة «روس نفط» واعتبرته «فايننشيال تايمز» في عام 2010 الرجل الثالث في السلطة بعد بوتين ودميتري ميدفيديف رئيس الوزراء الحالي، وديمتري روجوزين نائب رئيس الوزراء، وفلاديمير ياكونين الذي كان يترأس هيئة السكك الحديدية حتى أغسطس 2015، وهو صديق للرئيس الروسي منذ سنوات طويلة.

كما تضم المجموعة أشخاصاً من خارج الإطار السياسي التقليدي، مثل مخرج الأفلام الشهير نيكيتا ميخالكوف الذي سعى عبر عقود من خلال أعماله إلى تجسيد فكرة ولادة «روسيا البيضاء» بعد سقوط الشيوعية، وكذلك رجل الدين الأب تيخون شيفكونوف الذي يحظى بتأثير ما على الرئيس الروسي.

معضلة التاريخ السوفييتي

شكل التاريخ السوفييتي إحدى القضايا الإشكالية للرئيس الروسي، ففي الوثيقة التي نشرها في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي بعنوان «روسيا عند منعطف الألفية»، حاول بوتين النأي بنفسه عن الماضي الشيوعي، وذكر أنه ضد ترميم أيديولوجيا الدولة الرسمية بأي شكل من الأشكال، بل حاول أن يطرح نفسه كنموذج ليبرالي مغاير لا يثير الكثير من الشكوك لدى الدول الغربية الأخرى.

ولكن بمرور الوقت، بدا أن موقف بوتين من التاريخ السوفييتي أكثر تعقيداً، فهو وإن كان لا يُبدي حماسة كبيرة لاستعادة الأيديولوجيا الحاكمة للاتحاد السوفييتي السابق، فإنه كرّس لسياسة الإنكار والتجاهل للتاريخ السلبي للاتحاد السوفييتي لتخفيف حدة الانتقادات لهذا التاريخ، ولاسيما حقبة جوزيف ستالين، فخطاب السلطة المراوغ يتجنب وصف الأعمال التي ارتكبها نظام ستالين بأنها جرائم، ويركز على وصفها بالأخطاء، ويتم تبريرها بالظروف السياسية وسياقات الحرب آنذاك.

صاغ بوتين ــ وفقاً للكتاب ــ إطاراً لحماية التاريخ السوفييتي استناداً إلى فكرة المصالحة الوطنية، والحفاظ على الاستقرار المجتمعي، وبالتالي رفض إطلاق أي مشاريع لإحياء الذاكرة، تستهدف فحص ومحاسبة التاريخ السوفييتي، حيث جادل بوتين بـ«أن البحث عن تاريخ الشيوعية لا يعني تنظيم عمليات للتطهير وملاحقة الناس على أساس أنهم كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي، أو ربما عملوا في منظمات عسكرية مرتبطة بالحزب، لأن مثل هذا الأمر يمكن أن يزرع الفتنة في أنحاء المجتمع».

توجهات رئيسة

يُشير التشانينوف إلى أن تحليل خطابات بوتين في العقد الأول من الألفية الجديدة يوضح أنه لم يقل الشيء ذاته للجميع، حيث اختلفت مفرداته باختلاف وجهته، فحينما تعلق الأمر بأوروبا كان بوتين يقتبس من كانط، ويؤكد أن روسيا دولة أوروبية، وعندما ذهب إلى آسيا كان الأمر مختلفاً، فعلى سبيل المثال، حينما كان يخاطب الصين كان يستدعي خطاباً يدين الغرب، وسياسات التدخل في شؤون الدول الأخرى.

وتأسيساً على ذلك، يمكن القول إن السياسة البوتينية تنطوي على عدد من التوجهات الرئيسة المتمثلة في ما يلي:

أولاً: التوجّه المحافظ

صحيح أن بوتين سعى في بادئ الأمر إلى تقديم نفسه على أنه مصلح وليبرالي يطمح إلى التعاون مع الدول الغربية، لكنه بمرور الوقت تحول بصورة متزايدة نحو الأفكار المحافظة، وسرعان ما بدأ يتحدث عن فكرة روسيا التي تعتمد على التقاليد والقيم الأساسية، خصوصاً القيم المسيحية. وتبلورت هذه الفلسفة بشكل كبير خلال فترته الرئاسية الثانية (2004-2008).

ومع تزايد الهجمات الإرهابية ــ بحسب الكتاب ــ التي تتعرض لها روسيا تنامى استدعاء بوتين للمفردات الدينية كآلية لمواجهة التطرف، وفي هذا السياق، باتت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حليفة للرئيس الروسي في سياسته المجتمعية المحافظة، كما أن جزءاً من الطابع المحافظ لبوتين ارتبط بتعامله الحذر مع التكنولوجيا الحديثة، حيث إنه ذكر أنه لا يستخدم البريد الإلكتروني، وكثيراً ما انتقد الإنترنت والمشكلات التي يطرحها، وفي عام 2013 أعرب عن أسفه لتراجع مستوى المعرفة العامة بسبب التطور السريع في التكنولوجيا، ولم يكتف بذلك، لكنه اعتمد بصورة متزايدة على أسلوب هجومي على المعارضين والرافضين لإعادة انتخابه، ووصفهم بارتكاب «الخيانة القومية».

ثانياً: طموحات القيادة

لم يُخفِ بوتين رغبته في استعادة المكانة الروسية في النظام الدولي، واستحضر أدوات عدة لتحقيق ذلك الأمر، البعض منها عسكري عبر ضمان السيطرة على مناطق النفوذ الحيوي لموسكو، والبعض الآخر وثيق الصلة بما يعرف بالنموذج الروسي، الذي ينطوي على قيم الوطنية والمسيحية الأرثوذكسية؛ ليعطي بذلك بوتين أهمية للمواقع المقدسة الأرثوذكسية الروسية، وعدّها من أدوات تأكيد الدور الروسي. وبموازاة ذلك صاغ الرئيس الروسي شكلاً مختلفاً للديمقراطية، حيث باتت الديمقراطية الروسية تعني «قوة الشعب الروسي بتقاليده الخاصة للحكم الذاتي، وليس الوفاء بالمعايير المفروضة على روسيا من الخارج». وفي هذا الصدد، تكتسب فكرة «العالم الروسي» أهمية متزايدة، وتستهدف بناء شبكة عالمية داعمة لموسكو ونفوذها، وتنطوي هذه الفكرة على ضرورة الاستفادة من المواطنين الروس في الشتات، وقد عبّر بوتين عن هذا في عام 2000 حينما أكد أهمية «حماية المواطنين الروس داخل البلاد وخارجها»، وسرعان ما سعى إلى تعزيز الروابط اللغوية والثقافية مع الشتات الروسي، بالإضافة إلى استحضاره دور الكنيسة، إذ اعتبر أن الوحدة بين بطريركية موسكو والكنيسة الأرثوذكسية في الخارج، التي تأسست كمؤسسة معارضة لخضوع الكنيسة للبلاشفة، شرط ضروري لتعزيز الوحدة للعالم الروسي بأسره.

ثالثاً: المجال الأوراسي

وهو المجال الذي يحظى باهتمام واضح لدى بوتين لاعتبارات عدة، أهمها الرفض الأوروبي لدمج روسيا في المنظومة الأوروبية، علاوة على ذلك، يعتقد بوتين أن بلاده هي الدولة المحورية في أوراسيا، خصوصاً أنها دولة واسعة متعددة الأعراق، وبالتالي فإنها تمثل صورة مصغرة لأوراسيا، ومن هذا المنطلق، شرع بوتين في بناء اتحاد اقتصادي أوراسي يهدف إلى التنافس مع القوى الاقتصادية الكبرى، ويعزز من النفوذ الروسي في الوقت ذاته، ويخدم مصالح روسيا ومساعيها نحو المشاركة في قيادة النظام الدولي.

رابعاً: إضعاف الخصوم

تتعاطى روسيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو على أنها قوة مناوئة لها تسعى إلى تقويض نفوذها، ووفقاً لدراسة مركز «بيو» للأبحاث في يونيو 2015، فإن 60% من الروس (ممن تم استطلاع آرائهم) لديهم وجهة نظر سلبية تجاه الاتحاد الأوروبي، و80% لديهم توجهات مثيلة تجاه حلف الناتو، كما يعزو ثلث الروس تدهور الوضع الاقتصادي لبلادهم إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وعطفاً على هذه الرؤية، سعى بوتين إلى تنفيذ سياسة تستهدف إضعاف هذه القوى المناوئة له، فقد لجأ إلى القوة العسكرية لمواجهة ما اعتبره محاولة للتمدد الغربي في مناطق النفوذ التقليدي لبلاده، خصوصاً في جورجيا وأوكرانيا، كما لجأ إلى توسيع النفوذ الروسي في مناطق كانت خاضعة لنفوذ أميركي متعاظم، في مقدمتها منطقة الشرق الأوسط التي باتت ساحة لاختبار القوة العسكرية الروسية في سورية، حيث تدخلت لدعم نظام بشار الأسد، وبجانب ذلك، اندفعت موسكو نحو تدعيم قوى اليمين المحافظ في أوروبا، علاوة على التقارير التي تحدثت عن تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 لإضعاف الموقف الانتخابي لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.


سعى بوتين إلى تنفيذ سياسة تستهدف إضعاف القوى المناوئة له، حيث لجأ إلى القوة العسكرية لمواجهة ما اعتبره محاولة للتمدد الغربي في مناطق النفوذ التقليدي لبلاده، خصوصاً في جورجيا وأوكرانيا.

جزء من الطابع المحافظ لبوتين ارتبط بتعامله الحذر مع التكنولوجيا الحديثة، حيث إنه ذكر أنه لا يستخدم البريد الإلكتروني، وكثيراً ما انتقد الإنترنت والمشكلات التي يطرحها.

المحدد الأهم

يخلُص التشانينوف إلى أن السياسة الواقعية التي يتبناها فلاديمير بوتين ستظل المحدد الأهم للسياسة الروسية في ظل طموحاته باستعادة الدور القيادي لموسكو، والرد على ما يعتبره إهانات تاريخية تعرضت لها دولته من الدول الغربية. وربما يساعد على ذلك التراجع في الدور الأميركي بمناطق استراتيجية على غرار منطقة الشرق الأوسط، والسياسات التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي أسهمت في تزايد حدة الخلافات داخل الكتلة الغربية.

تويتر