الزعيم الروسي نجح في امتصاص غضب الشارع

الاستقرار الاقتصادي في روسـيا ساعد بوتين على البقاء

صورة

«بوتين يراقب انهيار اقتصاد روسيا ومكانته الرفيعة»، إنه عنوان مجلة «تايم» أواخر 2014. لكن مرت ثلاث سنوات، منذ أن انهارت أسعار النفط، وانخفضت قيمة هذه السلعة، التي كانت تمول نصف ميزانية الحكومة الروسية. وفي العام نفسه، فرض الغرب عقوبات اقتصادية قاسية على البنوك الروسية، وشركات الطاقة وقطاع الدفاع، ما أدى إلى قطع الطريق أمام أكبر الشركات الروسية للوصول إلى أسواق المال العالمية، ومعدات حفر النفط ذات التقنية العالية. واعتقد كثير من المحللين، في روسيا وخارجها، أن الأزمة الاقتصادية قد تهدد سلطة الرئيس فلاديمير بوتين وقبضته الحديدية. الأمر لا يبدو كذلك الآن.

سنوات جيدة

إن مهارة الكرملين، في جمع وتوزيع الموارد، تفسر لماذا حافظت النخبة الروسية على السلطة لما يقرب من عقدين من الزمان، وكيف نشرت القوة في الخارج مع بعض النجاح. العديد من الديكتاتوريات، التي تتغذى على النفط، تهدر عائداتها النفطية على السيارات الفارهة والمقتنيات النفيسة. صحيح، تمكنت نخبة روسيا من الاستحواذ على حصتها من فرق كرة القدم البريطانية واليخوت، التي تقدر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات، والمزودة بأنظمة الدفاع الصاروخي. لكن خلافاً لما كانت عليه في التسعينات من القرن الماضي، وفرت روسيا خلال العقد الأول من القرن الـ21، مئات المليارات من الدولارات خلال السنوات الجيدة، حيث كانت تستثمر الموارد في صناديق احتياطية، لاستخدامها عندما تنخفض أسعار النفط.

إذا كانت السياسة الاقتصادية للكرملين مبسطة، كما يتم تصويرها في كثير من الأحيان على أنها سلسلة من السرقات والأخطاء، التي تغطيها عائدات النفط، فإن حكامه لم يكن بإمكانهم البقاء في السلطة دون معارضة، وهم يشنون حربين خارج الحدود، في أوكرانيا وسورية.


مهارة الكرملين في جمع وتوزيع الموارد، تفسر لماذا حافظت النخبة الروسية على السلطة لما يقرب من عقدين من الزمان، وكيف نشرت القوة في الخارج مع بعض النجاح.

واليوم، استقر اقتصاد روسيا، وتراجع التضخم إلى أدنى مستوياته، والميزانية مقبولة، والرئيس الروسي يتجه نحو إعادة انتخابه في 18 مارس المقبل، حيث من المتوقع أن يبدأ ولاية رئاسية رابعة. وقد تجاوز بوتين، أخيراً، الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف، كزعيم روسي قضى أطول فترة رئاسية، منذ جوزيف ستالين. وقد اكتسب الاستقرار الاقتصادي تصنيفاً إيجابياً يناهز 80%؛ وساعدت استراتيجية الرئيس الروسي في البقاء، رغم الصدمات المالية والسياسية المتكررة.. كيف نجح في ذلك؟

تعايشت روسيا مع التحديات المزدوجة، الناجمة عن انهيار أسعار النفط والعقوبات الغربية، بفضل استراتيجية اقتصادية ذات ثلاثة أبعاد: أولاً: ركزت على استقرار الاقتصاد الكلي، ما أبقى مستويات الديون والتضخم منخفضة قبل كل شيء. ثانياً: حالت دون الاستياء الشعبي، من خلال ضمان مستويات منخفضة من البطالة ومعاشات تقاعدية ثابتة، على حساب ارتفاع الأجور أو النمو الاقتصادي. ثالثاً: سمحت الحكومة الروسية للقطاع الخاص بتحسين الكفاءة، لكن فقط حيث لا يتعارض مع الأهداف السياسية. هذه الاستراتيجية لن تجعل روسيا غنية، لكنها حافظت على استقرار البلاد، وعلى النخبة الحاكمة في السلطة.

عباءة الشرعية

ومع ذلك، هل لدى بوتين استراتيجية اقتصادية حقاً؟ التفسير الشائع لطول عمر حكم بوتين هو أن عائدات النفط الروسية تبقي البلد واقفاً على رجليه؛ والاقتصاد الروسي معروف بالفساد أكثر منه بالإدارة الاقتصادية الفعالة. لكن الكرملين كان بإمكانه تبني سياسات اقتصادية مختلفة، وبعض البدائل من شأنها أن تجعل من الصعب على بوتين الحفاظ على سيطرته على السلطة. كما أنها ستجعل الروس أسوأ حالاً. وبالنظر إلى حال روسيا عام 1999 عندما أصبح بوتين رئيساً، فقد كانت بلداً متوسط الدخل، حيث تشكل العائدات النفطية حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي. لقد كانت بلداً يقوده ضابط شاب ملتزم باستخدام أجهزة الأمن لتعزيز سلطته، إنه رئيس ارتدى عباءة الشرعية الديمقراطية، وكان قادراً على إجبار رجال الأعمال وأصحاب المال على اتباع قواعده، سواء بوسائل عادلة أو كريهة.

وهذا يمكن أن ينطبق على حكام فنزويلا، التي لاتزال تحت حكم نظام استبدادي، إذ لاتزال تعتمد على عائدات النفط المنخفضة، فيما تبدي فشلاً في بناء اقتصاد يقوم على قواعد ثابتة، بدلاً من نزوات سياسية. الفرق هو أن القيادة في كركاس أنفقت بتهور، خلال طفرة النفط. والآن هناك نقص مؤلم في السلع الاستهلاكية، جراء ضوابط ضعيفة للأسعار.

ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، كانت فنزويلا أكثر ثراء، على أساس دخل الفرد، من روسيا عام 1999، واليوم هي ليست كذلك.

بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يتوقع، بشكل منطقي، أن تصبح روسيا مثل فنزويلا اليوم. في الواقع، اعتقد بعض المراقبين عام 1999 أن فنزويلا في وضع أفضل للازدهار. في ذلك الوقت، اعتبرت وكالات التصنيف الائتماني أن إقراض حكومة فنزويلا أكثر أماناً من إقراض موسكو. والمشكلات الاقتصادية التي تعانيها فنزويلا حالياً، بما في ذلك نقص المواد الاستهلاكية والتضخم الهائل، والشحنات الغذائية التي تصادرها القوات العسكرية؛ كلها كانت تتعلق بمشكلات القرن العشرين في روسيا. ولم يكن هناك سبب يذكر عام 1999، للتفكير في أن هذا التاريخ المؤسف لن يستمر في القرن الحادي والعشرين. أما اليوم، فإن قلة من الناس يقارنون روسيا بفنزويلا، لأن الرئيسين في البلدين لهما استراتيجيات مختلفة جداً.

ولم يكن هدف الكرملين، في سياسته الاقتصادية، زيادة الناتج المحلي الإجمالي أو دخل الأسر الروسية. ومن شأن هذا الهدف أن يتطلب مجموعة مختلفة جداً من السياسات. لكن بالنسبة لأهداف الكرملين، المتمثلة في الاحتفاظ بالسلطة في الداخل، وبالمرونة اللازمة لنشر القوات في الخارج، فقد نجحت الاستراتيجية الثلاثية المتمثلة في استقرار الاقتصاد الكلي واستقرار سوق العمل، والحد من سيطرة الدولة على القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية.

بدءاً باستقرار الاقتصاد الكلي، تعتبر روسيا من البلدان الفاسدة النادرة، التي تحصل على تصنيف جيد من قبل صندوق النقد الدولي، في ما يخص إدارتها الاقتصادية.. لماذا؟ منذ بداية مجيء بوتين إلى منصبه، كان هو والنخبة الروسية بشكل عام قد أعطيا الأولوية لسداد الديون، وإبقاء العجز منخفضاً، والحد من التضخم. وبعد أن عانى قادة روسيا أعطالاً اقتصادية مدمرة بين عامي 1991 و1998، عرف هؤلاء جيداً أن أزمات الميزانية، والتخلف في سداد الديون، يمكن أن تدمر شعبية الرئيس، بل تطيح النظام، كما اكتشف كل من بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف.

الحاجة إلى الاستقرار

عندما تولى بوتين السلطة، كرس الكثير من عائدات النفط الروسية لسداد ديون البلاد الخارجية قبل الموعد المقرر. وفي الأزمة الحالية، خفضت روسيا الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، لضمان أن تحافظ الموازنة على مستواها المقبول. وفي عام 2014، شكلت عائدات النفط والغاز نحو نصف ميزانية الحكومة الروسية. واليوم، يتم تداول النفط بنصف أسعاره في عام 2014، لكن بفضل التخفيضات القاسية في الميزانية، يبلغ العجز في روسيا نحو 1% من إجمالي الناتج المحلي، أقل بكثير مما هو عليه في معظم البلدان الغربية.

وقد دعم بوتين البنك المركزي الروسي، حيث رفع أسعار الفائدة، الأمر الذي حدَّ من التضخم، لكنه خنق أيضاً النمو. منطق الكرملين هو أن الشعب الروسي يريد الاستقرار الاقتصادي فوق كل شيء آخر. وفي الوقت نفسه، تعرف النخب في موسكو أنها بحاجة إلى الاستقرار، للاحتفاظ بقبضتها على السلطة. ولضمان استقرار الاقتصاد الكلي، نفذ الكرملين برنامجاً تقشفياً قاسياً منذ عام 2014، لكن كانت هناك شكاوى قليلة.

الشق الثاني من استراتيجية بوتين الاقتصادية، هو ضمان فرص العمل والمعاشات التقاعدية، حتى على حساب الأجور والكفاءة. وخلال الأزمة الاقتصادية التي شهدتها في التسعينات، لم تدعم الأجور والمعاشات الحكومية في كثير من الأحيان، ما تسبب في احتجاجات وانهيار شعبية الرئيس بوريس يلتسين. لذلك عندما بدأت الأزمة الأخيرة، اختار الكرملين استراتيجية تخفيض الأجور، بدلاً من السماح للبطالة بالارتفاع.

بعد انهيار عام 2008، ارتفعت البطالة في الولايات المتحدة، لكن الناس الذين لم يتم تسريحهم لم يشهدوا تخفيضات حادة في الرواتب. أما في روسيا، على النقيض من ذلك، ارتفعت البطالة بنسبة نقطة واحدة. لكن في عام 2015، انخفضت الأجور بنحو 10%. وتلقى أصحاب الشركات، الذين يديرون أعمالهم بإشراف الكرملين، الرسالة بوضوح. وتم السماح بخفض الأجور، لكن لم يتم إغلاق المصانع، أو تسريح جماعي للعمال.

تسريح العمال

هذا أبعد ما يكون عن سياسة فعالة، نظراً إلى أن العديد من الروس لايزالون يعملون في مصانع العصر السوفييتي، التي هي في تراجع، وليس لديهم أمل في إحيائها. ومن الناحية الاقتصادية، سيكون من الأفضل نقل هؤلاء العمال إلى شركات أكثر إنتاجية. لكن القيام بذلك مستحيل سياسياً، نظراً لحظر تسريح العمال. وتواجه معظم قطاعات الاقتصاد الروسي ضغوطاً سياسية، لتوظيف العمال غير الضروريين، حتى لو لم يدفعوا لهم الكثير.

وهذا يتماشى مع حسابات الكرملين السياسية؛ فالروس لا يحتجون عادة على خفض الرواتب، لكن تسريح العمال وإغلاق المصانع سيخرجانهم إلى الشوارع. والسياسة الاجتماعية محكومة بالمنطق نفسه. ففي الماضي، انتفض المتقاعدون الروس للتظاهر ضد خفض المعاشات التقاعدية. وهكذا، فإن الحكومة تعاني نقصاً في التمويل الصحي والتعليم، لكن تبقى المعاشات التقاعدية دليلاً ثابتاً على أن الكرملين يقدر مساهمة المعاشات التقاعدية في الاستقرار السياسي، أكثر مما يعرب عن أسفه لمدى ضعف التعليم المدرسي وتباطؤ النمو.

عمل الشركات

أما الشق الثالث من سياسة بوتين، فيتمثل في السماح للشركات الخاصة بالعمل بحرية، شريطة ألا تخلّ باستراتيجية الكرملين. والدور الكبير الذي تلعبه الشركات المملوكة للدولة، التي يسيطر عليها أصحاب المال في قطاعات رئيسة معينة له ما يبرره جزئياً، فهم على استعداد لدعم الكرملين في إدارة الوضع الاجتماعي، من خلال إبقاء مستوى البطالة منخفضاً، ووسائل الإعلام خاضعة، والمعارضة السياسية مهمشة. صناعة الطاقة، على سبيل المثال، أمر بالغ الأهمية بالنسبة للحكومة، لذلك نجد الشركات الخاصة إما تمت مصادرتها، أو هي تابعة بالكامل للدولة.

شركات الصلب أقل أهمية، لكنها أيضاً يجب أن تتجنب تسريح العمال بشكل جماعي. وشركات قطاع الخدمات، مثل محال «السوبرماركت»، ليس لها مثل هذا الدور السياسي. وفي ذلك يقول عملاق التجزئة، سيرجي غاليتسكي: «عندما يتعلق الأمر بالسياسة». متابعاً «أجلس على الأريكة وأمسك بعض الفشار، وأحياناً أنحني قليلاً، لأتفادى إطلاق النار!» ولا يمكن لرؤساء شركات الطاقة أن يتجاهلوا السياسة. وعادة يكونون هم من يطلق النار. وبالنظر إلى هذه القيود السياسية، فما هو أمل القطاع الخاص بروسيا في تحسين الكفاءة، أو دفع عجلة النمو الاقتصادي؟ القليل وليس كثيراً. وهذا ينطبق أيضاً على منطق الكرملين. النمو شيء جيد، لكن الحفاظ على السلطة أفضل.

كريس ميلر: كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشؤون الروسية

تويتر