التنصل منها لن يكون في مصلحة أميركا

مهاجمة النظام الإيراني وإضعــافه أجدى من إلغاء الاتفاقية النوويــة

صورة

كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب صريحاً في ازدرائه للاتفاقية النووية مع إيران التي وقعت عام 2015، والتي وضعت حداً للبرنامج النووي الإيراني. وقال في خطابه أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة، في 19 سبتمبر الماضي، إن «الاتفاقية مع إيران كانت واحدة من أسوأ الاتفاقيات وأكثرها فائدة لطرف واحد» وأضاف ترامب «بصراحة، هذه الاتفاقية تشكل إحراجاً كبيراً للولايات المتحدة، ولا أعتقد أنكم عرفتم بكل تفاصيلها صدقوني».

- إشارات مرعبة، ستصل إلى الدول الأخرى المهتمة بإجراء اتفاقية تخفيض التسلح مع أميركا، إذا ألغت واشنطن الاتفاقية، ولن يكون هناك من يثق بعهود واشنطن بعد الآن.

- الطريقة الوحيدة لمعاقبة إيران، هي إقناع الدول الرئيسة في أوروبا وآسيا، بقطع علاقاتها التجارية معها. ومن المرجح ألا تقوم بهذا الأمر، طالما التزمت ببنود الاتفاقية النووية.

- إدارة ترامب تدرس سيناريوهات أقل رعباً، فبدلاً من التخلص من الاتفاقية الإيرانية، ربما يعمد ترامب إلى محاولة إعادة التفاوض بشأنها، أو ربما التفاوض على اتفاقية إضافية.


تعميق التورط الأميركي

المشكلة في تحقيق ما تم طرحه، هي أنه سيعمق التورط الأميركي في سورية والعراق، الأمر الذي ينطوي على مخاطر زيادة الإصابات، ويلزم الولايات المتحدة بلعب دور إعادة بناء الدولة. وهو الأمر الذي يكرهه ترامب، الذي كان مثل سلفه يرغب في تدمير «داعش»، وإعادة الجيش الأميركي إلى الديار. وكان الرئيس مقتنعاً سابقاً من قِبَل مستشاريه للأمن القومي، في حالة أفغانستان، بأن يتصرف بصورة مغايرة لغرائزه. وربما يمكن إقناعه بأن يقوم بذلك مرة أخرى، إذا علم أن المتعة الفورية والفارغة، التي ستأتي من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، لا ترقى إلى سياسة جدية إزاء إيران.

وهدد ترامب، كما كان يفعل وهو يقدم برنامج تلفزيون الواقع، أنه اتخذ قراره بأنه سيرى ما إذا كان الإيرانيون ملتزمين بالاتفاقية في 15 أكتوبر الجاري، بيد أنه لم يحدد ما الذي يمكن أن يفعله بعد هذا التاريخ.

وليس لديَّ أي فكرة عما يمكن أن يفعله الرئيس، فهو شخصية لا يمكن توقع ما يمكن أن تقوم به، ولكن يمكن أن اقدم وجهة نظري - الحديث للكاتب - باعتباري شخصاً عارض الاتفاقية النووية الإيرانية، لأني اعتقدت أن فيها الكثير من التساهل لمصلحة إيران. إذ إن هذه الاتفاقية لم توقف البرنامج النووي بصورة نهائية، وإنما توقفه لعقد من الزمن، كما أنها لا تعالج التهديدات الأخرى الناجمة عن إيران، خصوصاً دعمها للإرهاب، وتطوير الصواريخ البالستية. ومع ذلك، فإني لا أنصح بالانسحاب من الاتفاقية في هذا الوقت، بعد أن أكدت المنظمة الدولية للطاقة النووية، التي تراقب 27 موقعاً منفصلاً في إيران، على أن طهران تمتثل لهذه الاتفاقية.

خطوات أخرى

وبدلاً من مهاجمة الاتفاقية النووية، يتعين على إيران أن تتخذ خطوات أخرى، تهدف إلى التحقق من مدى نمو النفوذ الإيراني. لأن ذلك سيبعث بإشارات مرعبة إلى الدول الأخرى، التي ربما تكون مهتمة بإجراء اتفاقية تخفيض التسلح مع الولايات المتحدة، إذا ألغت واشنطن الاتفاقية لمجرد تغير الإدارات في البيت الأبيض، ولن يكون هناك من يثق بعهود واشنطن بعد الآن.

وفي حقيقة الأمر، فإن الانسحاب من الاتفاقية لن يعمل على وضع إيران في وضع العزلة فحسب، وإنما الولايات المتحدة أيضاً. وإذا ألغت إدارة ترامب الاتفاقية ببساطة دون فرض عقوبات ذات معنى على إيران، فإن التأثير سيكون رمزياً، وتفيد هذه الرمزية أن الولايات المتحدة تقف وحدها.

وبدا الرئيس الإيراني حسن روحاني، أنه أكثر اعتدالاً وإقناعاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة من الرئيس الأميركي الذي كان متسرعاً جداً، وشكلت كلماته عناوين الصحف عندما قال عن رئيس كوريا الشمالية، كيم يونغ أون، إنه «رجل الصواريخ»، وهدد بتدمير بلده عن بكرة أبيها. ولابد من القول بأن الانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية، دون استفزازات منطقية تقوم بها إيران، سيحشد تعاطف المجتمع الدولي مع إيران، على الرغم من انتهاكها المرعب لحقوق الإنسان.

ويستطيع الكونغرس الأميركي فرض عقوبات أميركية على إيران، إذا انسحب ترامب من الاتفاقية، لكن الولايات المتحدة ليس لها الكثير من الأعمال مع طهران.

وتبقى الطريقة الوحيدة لمعاقبة إيران في إقناع الدول الرئيسة في أوروبا وآسيا بقطع علاقاتها التجارية معها. وهذا الأمر من المرجح ألا تقوم به طالما أنها ملتزمة ببنود الاتفاقية النووية. وربما تستطيع إدارة ترامب الضغط على الدول الأوروبية، عن طريق التهديد بطرد كل دولة أو شركة تعمل مع إيران، من السوق الأميركية. ولكن تنفيذ مثل هذا التهديد سيكون صعباً على أكبر شركاء أميركا التجاريين في أوروبا، وربما يمكن أن يسبب أزمة شاملة في وقت تتميز فيه العلاقات بين شطري الأطلسي بالتوتر أصلاً.

سيناريوهات أقل رعباً

ويقال إن إدارة ترامب تدرس سيناريوهات أقل رعباً، فبدلاً من التخلص من الاتفاقية الإيرانية، ربما يعمد ترامب إلى محاولة إعادة التفاوض بشأنها، أو ربما التفاوض على اتفاقية إضافية تضع قيوداً على تطوير إيران للصواريخ البالستية، ودعمها للإرهاب. ولكن ما الذي يدعو إيران، التي رفضت الموافقة على مثل هذه القيود عام 2015، عندما كانت ترزح تحت العقوبات الاقتصادية القاسية، أن توافق عليها الآن بعد تحسن وضعها الاقتصادي بصورة كبيرة إثر رفع العقوبات عنها؟ حتى لو كان ترامب يستطيع إعادة فرض مثل هذه العقوبات مرة ثانية، فإنها لن تكون بحجم العقوبات التي كانت عليها قبل الاتفاقية النووية.

ومن الصعوبة بمكان الوقوف على كيفية قيام الولايات المتحدة بإجبار إيران على التفاوض، في ظل غياب تهديد معقول باللجوء إلى الخيار العسكري. ولكن الولايات المتحدة لا تملك خياراً سهلاً لتدمير منشآت إيران النووية التي تزداد صلابة، وإلا لفعلت ذلك، كما أن هذا الخيار يعتبر لعبة محفوفة بالمخاطر غير معروفة العواقب.

وبالنظر إلى تهور ترامب وجهله، فإن تهديداته يمكن أن تخرج عن السيطرة بسهولة، في كل من إيران وكوريا الشمالية، وتدفع واشنطن إلى الانجرار نحو حرب أو حربين لا يرغب أحد فيهما، خصوصاً في زمن هذا الرئيس، الذي وعد بأن يمنع أميركا من المشاركة في صراعات الآخرين. وسيكون من التهور بمكان إشعال أزمة مع إيران، في الوقت الذي تدور فيه نذر حرب مع كوريا الشمالية.

خيارات عدة

لكن الأخبار الجيدة أن الولايات المتحدة تمتلك خيارات عديدة يمكن أن تستخدمها لكبح الجماح النووي الإيراني، دون الحاجة إلى إلغاء الاتفاقية النووية، مثل إعادة التفاوض مع الملالي الذين يحكمون إيران، أو الذهاب إلى حرب ضدهم. ويبدو أن إدارة ترامب تقوم بشيء من ذلك، مثل فرض العقوبات على الشركات التي لها علاقة ببرنامج الصواريخ البالستية الإيرانية، والهجمات السبرانية، واستهداف الحرس الثوري الإيراني الذي يدعم الإرهاب. وهناك الكثير الذي يمكن القيام به على جبهة العقوبات، بما فيها تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية. ولكن هناك أيضاً خطوات مهمة تستطيع إدارة ترامب اتخاذها على الأرض في سورية والعراق.

وتحاول إيران «لبننة» هاتين الدولتين، عن طريق السيطرة عليهما بوساطة الميليشيا التي يديرها الحرس الثوري مثل «حزب الله»، وفي الوقت ذاته السماح لقادة مستقلين أمثال الرئيس السوري بشار الأسد، ورئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بالبقاء شكلياً في السلطة. وعمدت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إلى تجاهل محاولة إيران انتزاع السلطات في هذين البلدين، من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران. وإذا كان لدى إدارة ترامب استراتيجية لوقف الإيرانيين، بأكثر من مجرد التهديدات الكلامية، فإنه سيكون سراً تم الحفاظ عليه بصورة جيدة حتى الآن.

وتواصل القوات المسلحة الأميركية مهماتها القتالية في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها ضد تنظيم «داعش» الإرهابي فحسب. ولكن الخطر يكمن في أنه عند القضاء على «داعش»، وهو الأمر الذي بات شبه منتهٍ، فإن ما تقوم به واشنطن وحلفاؤها، وببساطة إفساح مزيد في المجال أمام إيران كي تتمدد وتسيطر. وقامت إدارة ترامب بمساعدة هذا التوسع الإيراني في المنطقة والاستيلاء على السلطات دون قصد، عندما أنهت تقديم مساعدات المخابرات المركزية للمعارضة السورية المعتدلة، وعندما انسحبت القوات الأميركية من موقع مهم في جنوب سورية بالقرب من الحدود مع العراق، إذ قامت عملياً بتسليم المنطقة للميليشيات المدعومة من إيران، هذه الدولة التي باتت الآن تشرف على طريق بري يمتد من طهران إلى بيروت، أي إنشاء الإمبراطورية الفارسية من جديد.

وإذا كانت الولايات المتحدة جدية بشأن كبح جماح توسع إيران، فلابد أن تقدم الدعم للميليشيات في كل من العراق وسورية، والمستعدة لمحاربة الإيرانيين المتطفلين. وفي حالة العراق، فإن ذلك يعني الإصرار على أنه عند القضاء على «داعش»، يتعين على حكومة بغداد تفكيك قوات الحشد الشعبي، التي يتألف معظمها من الميليشيات المدعومة من إيران، وتشكيل حرس مدني سني لحماية المناطق السنية من العدوان الشيعي. ولن يكون إنجاز ذلك أمراً سهلاً، ولكن الولايات المتحدة تستطيع اكتساب نفوذ مهم، إذا لم ترجع قواتها إلى الديار بعد هزيمة «داعش»، وإذا فعلت ذلك فإنها تكون قد انتبهت إلى عدم تكرار الخطأ الذي ارتكبه الرئيس أوباما عام 2011.

وفي سورية، تستطيع الولايات المتحدة أن تضغط على إيران عن طريق توسيع قوات سورية الديمقراطية التي تحارب «داعش» في الشمال، وتعمل على حشد مقاتلين عرب إلى جانب القوات الكردية، وأيضاً عن طريق تقديم مساعدات جديدة إلى «الجيش السوري الحر» في جنوب سورية. وتعرضت قوات المعارضة المعتدلة في سورية لخسائر فادحة خلال السنوات الأخيرة، بالنظر إلى انخفاض المساعدات التي تحصل عليها، مقارنة بما تحصل عليه القوات السنية المتطرفة أو المجموعات الشيعية. ولكن يظل من الممكن بناء قوات عسكرية فعالة من السوريين المغتربين في الأردن وتركيا.

واذا تم دعم هذه القوات بالقوى الجوية الأميركية والمستشارين، بالطريقة ذاتها التي حصلت عليها قوات سورية الديمقراطية لتحرير الرقة، فإنها ستكون قادرة على هزيمة القوات الإيرانية وتمنعها من السيطرة على المناطق التي كانت تحت سيطرة «داعش». وفي نهاية المطاف، فإن تغيير توازن القوى على الأرض يمكن أن يؤدي إلى إمكانية حدوث تفاوض ينهي الصراع في سورية.

ماكس بوت باحث في الدراسات الأمنية الوطنية في معهد كاونسل أون فورين ريلاشن


تويتر