«من حلفا إلى نمولي» شـطبت باتفاقيتي «السدّ» و«نيفاشا»

جنوب السودان يدخل «حيّز» الانفصال

مئذنة مسجد حلفا «أقصى شمال السودان» غارقة في مياه بحيرة السد. أرشيفية

بإدلاء سكان الجنوب السوداني، ابتداء من اليوم ولمدة أسبوع، بأصواتهم في استفتاء مصيري تشير كل الدلائل إلى اختيارهم الانفصال عن الشمال لإقامة دولتهم المستقلة، يكون السودان (الأكبر مساحة في القارة السمراء)، قد فقد جزءاً غالياً وعزيزاً من ترابه (نحو 24٪ من مساحته)، وكأن التاريخ يعيد نفسه ليذكر السودانيين بضياع وادي حلفا في أقصى الشمال على حدود مصر قبل اكثر من نصف قرن، حيث غمرت المنطقة بمياه السد العالي بعد توقيع حكومة الفريق ابراهيم عبود عام 1959 اتفاقية السد مع الحكومة المصرية آنذاك، وهاهي اليوم حكومة المشير عمر البشير تمضي الى آخر المطاف في تنفيذ اتفاقية «نيفاشا» للسلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي منحت الجنوبيين حق تقرير المصير، أو بالأصح حق الانفصال عن الوطن.

حكومة «الإنقاذ» بقيادة البشير هي المسؤولة عما يحدث اليوم، فبعد توقيعها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية نيفاشا في يناير ،2005 التي نصت على مرحلة انتقالية مدتها ست سنوات يتم بعدها تحديد مصير الجنوب بالوحدة أو الانفصال عن الشمال، كان بإمكانها ان تجنب السودان مرارة هذه الكارثة الوطنية، لكنها فشلت طوال سنوات الاتفاقية في جعل الوحدة خياراً جاذباً لأهل الجنوب، مع الأخذ في الاعتبار أن الحركة الشعبية لم تكن تاريخياً بقيادة زعيمها الراحلجون قرنق حركة انفصالية، بل كان هدفها سودان واحد علماني، وتبنت برنامج «السودان الجديد»، الذي يستهدف كل السودان على أساس الديمقراطية والحرية وليس الجنوب فقط، لكن مع غياب كامل أو بالاصح تغييب الخرطوم عن أي أنشطة لدعم الوحدة في الجنوب، رغم انها ظلت مطلبا للقوى الشمالية والجنوبية على حد سواء، بما في ذلك الحركة الشعبية، فإن ذلك كان سبباً كافياً لدفع الجنوبيين إلى التخلي عن شعار الوحدة والميل نحو الانفصال الذي دخل حيز التنفيذ الفعلي.

مشكلة جنوب السودان مشكلة مزمنة لم تأت من فراغ، بل لعب الاستعمار دوراً كبيراً في خلقها، لكن اللوم الأكبر يقع على عاتق الإدارات السودانية التى تعاقبت على السودان والتي لم تعر الجنوب أي اهتمام، فمنذ الاستقلال تم تجاهل الجنوبيين ومطالبهم، رغم انهم كانوا على استعداد للمضي قدما في مسيرة السودان الموحد، لكن ذلك التجاهل نتج عنه التمرد الاول عام ،1955 وتلته اضطرابات كثيرة، بعدها أعطت اتفاقية أديس ابابا (1973) في عهد الرئيس السابق، جعفر النميري، الجنوبيون الحكم الذاتي في اقاليمهم، حتى نكوث نميري بوعده، ليندلع التمرد بشكله العنيف في مايو ،1983 وبقدوم «الإنقاذ» عام 1989 والتي انتهجت نهج النميري في ايامه الاخيرة، تمسك الجنوبيون بتمردهم حتى تم توقيع اتفاقية نيفاشا ،2005 حيث قدم الشمال للجنوب ما لا يمكن ان يحلم به حكم ذاتي، ومشاركة في الحكم وحق تقرير المصير بإقرار الاستفتاء على الانفصال، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير.

الحفاظ على استقلال الأوطان ووحدتها ضد الانفصال الداخلي هو عادة الهدف القومي الأول للحكومات، لا التفريط في وحدة الأرض والشعب. وما يحدث الآن في السودان من ضياع اقليم شاسع بمساحة الجنوب غير مقبول في بلد وشعب متعدد الأعراق والديانات والتقاليد، فهو بداية لتفتيت الوطن، وتصعيد للنزاعات المسلحة الموجودة بالفعل في السودان، وكما قبلنا اليوم بانفصال الجنوب، فغداً سنقبل حتماً انفصال دارفور في الغرب وبعدها الشرق.

لقد أضاع السودان من قبل مدينة حلفا القديمة (وادي حلفا) أقصى الشمال على الحدود المصرية، في تضحية نادرة قل ما عرف مثلها بين الأمم، حيث قبلت حكومة الفريق عبود (1958 - 1964) إغراق المدينة في بحيرة السد العالي، وهُجّر أهلها قسراً إلى منطقة «خشم القربة» في شرق السودان، وقد ترك هذا الحدث اثراً مؤلماً في النوبيين على جانبي الوادي، وبعد ذلك أقر الفريق عبود بندمه الشديد على موافقته تلك.

واليوم يتكرر المشهد مع الفارق الكبير بين حلفا وإقليم الجنوب، ولن يفيد البشير التعبير عن «الحزن» عندما زار مدينة جوبا عاصمة الجنوب قبل خمسة ايام من الاستفتاء، فالكل حزين في الداخل، وكذلك الوطن العربي من المحيط الى الخليج، لغياب الجنوب عن الخريطة السودانية، وان ظل ضياع حلفا غصة في الحلق لايزال السودانيون يتجرعون مرارتها، ويتذكرون هتافات سكانها الغاضبين «حلفا دغيم (قرية صغيرة) ولا باريس»، تعبيرا عن سخطهم ورفضهم لضياع مدينتهم غرقاً، فإن انفصال الجنوب وضياعه إلى الأبد سيكون خنجراً في ظهر السودان، ولن نسمع بعد اليوم كسودانيين العبارة الشهيرة «من حلفا الى نمولي»، والأخيرة مدينة تقع في أقصى جنوب السودان بعد ان شطبتها اتفاقتا «السد» مع مصر، و«نيفاشا» مع الحركة الشعبية.

تويتر