الأهرام وناطحات السحاب

لا يكاد يخلو أي حديث يدور بيني وبين من أقابلهم في جامعة هارفارد بمدينة كمبردج الأميركية – حيث أقيم الآن - من الإشارة إلى بلدي مصر مقرونة بالأهرام. يذكرني هذا باقتران أميركا بناطحات السحاب في منظورنا وكتاباتنا منذ بدايات القرن الماضي. فما أوجه المقارنة بين الأهرام وناطحات السحاب؟ وما النقطة المشتركة بينهما؟ هل هي مسألة تاريخ أم معمار، أم كلاهما؟

قد تكون الرموز معمارية هنا، حيث يرمز الهرم لمصر بحضارتها القديمة، بينما تقف ناطحة السحاب رمزاً لأميركا بمظهرها الحديث والمتحدي كقوة عظمى. لنتذكّر هنا أن الهرم بني كمقبرة ضخمة للفرعون القوي، صرح شامخ وصلب يقوم على الإيمان بالآخرة. من ناحية أخرى، تتمتع ناطحة السحاب بأفكار حديثة طموحة، وجرأة معمارية (تحيلنا هذه الجرأة المعمارية إلى برج خليفة، كرمز لعظمة التصميم وعلو الطموح)، وهو مؤشر على تقدم أمة شابة، تلعب دورها كقوة عظمى على المسرح العالمي. وتتجلى هذه الجرأة في الاسم نفسه الذي أطلق على هذا الصرح المعاصر: ناطحة سحاب، بناء شاهق (يكشط) السحاب، بلا خجل، ودون اعتذار.

منذ سنوات نشرت مختارات لعدد كبير من رحلات المصريين المصورة عن أميركا، والتي وصفت أميركا على امتداد نحو 100 عام (1912-2011). إن صورة أميركا التي تنبثق من هذه المرويات رائعة ومُثيرة في آنٍ واحد، ولكنها ليست متجانسة أبداً. يقدم الكتاب مجموعة متنوعة من وجهات النظر، فهي تُصوِّر أميركا على أنها الآخر الذي لا يتغير، نقيض الذات المصرية العربية، أو الأنثى المغرية، أو الحضارة التي تستحق الثناء والاستهجان في آن واحد.

وفي تاريخ العلاقات الأميركية المصرية تصادفنا المفاجآت: من منّا كان يعرف أنه في عام 1862، احتج الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، على وجود 445 جندياً مصرياً في المكسيك، كانوا هناك في ذلك الوقت لدعم الثوار المكسيكيين بالأسلحة والعتاد، أو أن الخديوي إسماعيل، حاكم مصر في عام 1868 جنّد قدامى المحاربين الأميركيين في الحرب الأهلية الأميركية لتحديث الجيش المصري، أو أنه في عام 1880، أهدت مصر إلى أميركا مسلة فرعونية قديمة، والمعروفة باسم إبرة كليوباترا، والتي أقيمت في سنترال بارك بنيويورك؟

ونقرأ أيضاً عن زيارة الرئيس ثيودور روزفلت لمصر في عام 1910، والتي أثارت ردود فعل سلبية من الأدباء المصريين، والحكاية هي أن الرئيس الأميركي ألقى خطاباً في الجامعة المصرية المنشأة حديثاً، والتي كانت تحمل اسم الجامعة الأهلية (سميت فيما بعد بجامعة القاهرة)، هاجم فيه التعصب الديني، ولكن بدا أنه أعرب عن وجهات نظر مؤيدة للاحتلال البريطاني لمصر. ونُقل عنه قوله: «إن تدريب الأمة (المصرية) على التكيف بنجاح للوفاء بواجبات الحكم الذاتي هي مسألة ليست لعقد أو عقدين، بل هي مسألة أجيال».

وأثارت مثل هذه الآراء انتقادات من محمد فريد، الزعيم الوطني المصري الشهير، وأحمد شوقي، الشاعر المصري. (انظر التقرير في جريدة «الرسالة» رقم 893 - 1910)، ولكن الغريب هو أن هذه الحادثة لم تغير المشاعر المصرية تجاه الولايات المتحدة، كما سيلاحظ في الـ40 سنة التالية منذ زيارة تيودور روزفلت لمصر وحتى 1952، وعندما كانت سياسات أميركا الرسمية معادية للقضايا المصرية أو القضايا العربية في وقت لاحق كانت نظرة المصريين تجاه الأميركيين كشعب، أو أميركا كمجتمع وكثقافة إيجابية في كثير من الأحيان. ولإعطاء القرّاء فكرة سريعة عن تطور النظرة المصرية لأميركا وللأميركيين والمجتمع الأميركي بصفة عامة، دعوني استشهد بملاحظة عن المرأة الأميركية للأمير محمد علي، الذي زار أميركا سنة 1912: «...والذي استغربته أني رأيت كثيراً من السيدات راكبات عربات صغيرة مقفلة، تمشي بقوة الكهرباء، وهن اللاتي يحرّكنها بأنفسهن من دون سائق يقودها، بلا خوف ولا وجل، فقلت إذ ذاك: إن الأميركيين الذين أمهاتهم أمثال هؤلاء السيدات الممتلئات نشاطاً وثباتاً وقوة جنان، جديرون بما نالوا من الصيت الطائر في جميع أنحاء العالم، فأكثر أخلاق الولد وعوائده مكتسب من أمه، فالأمم ترتفع بارتفاع المرأة فيها، وتنحط بانحطاطها».

• باحث في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى بجامعة هارفارد الأميركية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة