مساحة حرة

الخصوصية في عصر الذكاء الاصطناعي «2»

فيصل محمد الشمري

لعل ما تم اكتشافه عام 1998، حين طوّرت إحدى الشركات كاميرا معززة بخصائص الرؤية الليلية، والتي إن استخدمت أثناء النهار مع «فلتر» خاص، فإنه يمكن أن تسمح بالرؤية عبر بعض أنواع الملابس، دفع الشركة المصنعة لأحد أشهر أنواع الكاميرات إلى أن تعيد توصيف ومعايير التصنيع لأجهزتها، للحد من التلصص، واختلاس النظر وتعرية الضحايا، بعد أن استغلها البعض استغلالاً غير أخلاقي.

فالقدرة على تصوير المرء وكأنه لا يرتدي ملابس تُعد خرقاً للخصوصية، وثبت استغلاله من بعض الأشخاص، حيث اعتذرت وقتها الشركة، وسحبت هذه الأجهزة من السوق، بينما الأجهزة المباعة كان من الاستحالة سحبها، الأمر الذي يجعلنا ندرك أنه ما أن تطرح إحدى هذه التقنيات على العامة أو الخاصة، فإنه يستحيل أن تتم معالجة المخاطر الأمنية والأخلاقية الكامنة، بعد خروج الشرور من «صندوق ميدوسا» (أسطورة إغريقية تتكلم عن صندوق سحري يجمع الشرور كافة على الأرض، وعند فتحه تنطلق هذه الشرور دون سيطرة).

ولربما تسهم مشاهدة سلسلة أفلام الخيال العلمي: «المدمر» أو Terminator في تفتح آفاق البعض لما قد يشكله الذكاء الاصطناعي من خطر على الحياة والوجود الإنساني في المستقبل.

ولعل أحد أهم الأسئلة الأخلاقية المهمة، تظهر عند بحث استخدام خصائص المركبات ذاتية القيادة، المستوى الرابع، (وهو ما يشار إليه بأنه مستوى الأتمتة عالية القيادة، إذ تكون القيادة مستقلة، ولا تتطلب أي تفاعل بشري، ويفترض أنها مبرمجة لإيقاف نفسها عند فشل النظام، كونها لا تحتاج إطلاقاً إلى سائق بشري، ولا تحتوي على عجلة قيادة أو دواسات).

فعند الخطر، من سيتخذ القرار في المستوى الرابع لتطبيقات القيادة الذاتية؟ بمعنى أنه عندما يوجد سيناريو يهدد حياة الراكب، أو أحد المشاة أو بعضهم، أو ركاب مركبات أخرى، مع احتمالية عالية للوفاة، أو التعرض لإصابة قاتلة، أو عجز للبعض، فمن سيكون صاحب القرار الأخلاقي لمن سيتعرض للحادث وما قد ينتج عنه من موت أو حياة؟ هذا السيناريو قد يرى البعض أنه يتعارض مع التسليم بالقدر، لكنه قرار إنساني أخلاقي لا نستطيع لا اليوم ولا غداً ولا في المستقبل البعيد، أن نتركه لآلة، لتتخذه بدلاً عن الإنسان.

إن بعض هذه المخاطر المرتبطة بسيناريوهات خرق الخصوصية للفرد والمجتمع، باستغلال قدرات الذكاء الاصطناعي، أمر واقع في يومنا هذا، وهو ما طرحناه أثناء تدريس مادة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في كلية الشرطة بأبوظبي (التي تُعد أول كلية شرطية في العالم تطور منهجاً علمياً خاصاً بالتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، تشرفت في عام 2018 بإعداد المادة وتدريسها مع نخبة من الزملاء المتخصصين).

لقد كان أحد التمارين يتطرق إلى البيانات الاستهلاكية للأفراد، وسهولة الحصول عليها من قبل بعض الموظفين العاملين في برامج الولاء التجارية «Loyalty Program»، أو العاملين في البنوك والمسؤولين عن كشوفات حسابات وأرصدة بطاقات الائتمان، حيث يمكن أن يتم تحليل أنماط السلوك من قائمة مشتريات شخص ما، كأن يكون مقيماً في مدينة، ورغم ذلك يحجز فندقاً أو شقة مفروشة، وتكون المشتريات السابقة أو اللاحقة لهذا الحجز ذات طبيعة خاصة تفسر بسلوكيات معينة مثل المشروبات الكحولية أو غيرها.

وبمجرد مطابقة التاريخ والتوقيت لهذه المشتريات لتكون في اليوم أو التاريخ نفسه، مع تكرار هذا النمط من السلوك على مدار الشهر أو السنة في أيام معينة، فإنه يمكن تحليل سلوك هذا الشخص بما يخرق خصوصيته، ويعرضه للابتزاز، أو يتيح مراقبته لتوثيق أي سلوكيات يمكن استغلالها ضده.

ولو افترضنا أن هذا الشخص المستهدف يعمل في جهة معينة مسؤولة عن مناقصة ما، ولنتخيل الضغوط والممارسات التي قد يرضخ لها لاحقاً بسبب تسرب هذا النوع من المعلومات، والأسوأ انحرافه عن أخلاقيات العمل، ومهنيته، أو حتى كسره القانون ومخالفته، ‏استجابة لهذا النوع من التهديدات والابتزاز.

ونظراً لخطورة التحديات الكامنة، فإننا نوصي بأن يتم وضع ضوابط أخلاقية وأخرى قانونية، إضافة إلى طرح مشروع عالمي لإعداد ميثاق شرف مهني للباحثين والمطورين في مجالات الذكاء الاصطناعي، أو اتفاقية دولية (مماثلة للاتفاقات ذات الصلة في العديد من المجالات الأخرى مثل مكافحة الإرهاب أو حماية الطفل، أو غيرها من الموضوعات الحساسة والحيوية والمهمة لمجتمع اليوم المعاصر)، للحد من استغلال التقنيات الثورية والناشئة عموماً، والذكاء الاصطناعي خصوصاً، مع إطار أخلاقي، يمنع كل ما يمكن أن يضر البشرية، أو يشكل تهديداً وجودياً لها، للحد من المخاطر، أو على أقل تقدير سيسهم في تعريف الحدود المقبولة دولياً، ويضع هذه التحديات أمام الجميع، سواء الدول المتقدمة تقنياً أو غيرها (لا سيما مع تزايد الفجوة الرقمية والمعرفية في تطبيقات ومفاهيم التحول الرقمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي)، على الأقل من الناحية الأخلاقية.

فما هو قانوني في دولة، قد لا يجوز في دولة أخرى، وما هو مقبول في أخلاقيات وثقافة مجتمع ودين، غير مقبول في مجتمع آخر.

مستشار إداري وتحوّل رقمي وخبير تميّز مؤسسي معتمد

تويتر