استشراف المستقبل في الإسلام

ما أعظمَ القادة حينما يستشرفون مستقبل شعوبهم، فيخطّطون لاستثمار المستقبل أحسن تخطيط! إن ذلك يدل على اهتمامهم بشعبهم ووطنهم، وأنهم يسعون لنفع الأجيال المستقبلة، كسعيهم لنفع الأجيال الحاضرة، بل أكثر، وبذلك يخلِّدون عظمتَهم في ذاكرة التاريخ، ويكونون أمة يُهتدى بهم في العطاء، والبذل والحكمة والخير.

إن استشراف المستقبل والتخطيطَ له تخطيطاً محكماً هو منهج الإسلام على لسان رُسُله ورجاله المصلحين، فهذا نبي الله يوسف، عليه السلام، لولا تخطيطُه لإخراج شعب مصر من السبع السنين العجاف التي علم بقدومها لا محالة؛ لكانت المجاعة قد حطت بكلْكلِها على الشعب، وأفنت خياره وعامته، ومن قبله نوح، عليه السلام، لولا تخطيطه للمستقبل بصنع الفلك حتى ينجو به، ومن معه من الغرق لهلكت البشرية، وهذا سيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لولا تخطيطه للمستقبل بهجرة أصحابه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم هجرته إليها بنفسه مع التخطيط المحكم لتنفيذها؛ لولا ذلك لم تقم دولة الإسلام، وهكذا استشرفَ المستقبل، فأخبر أصحابه وأمته، ما سيبلغ عليه أمر أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وما سيُفتح عليها من الخيرات، وما سيُحاط بها من فتن، وما عليها أن تعمله لتوقِّيها، وما يجب أن تفعله لدنياها من الزراعة والصناعة والعمران.

إن ديننا كله هو دين عمل الحاضر للمستقبل القريب والبعيد، فمن أغفل العمل للمستقبل لم يكن عمله الحاضر سليماً ولا مقبولاً، والدين هو نور الهداية لعمل الدنيا والآخرة، وهذه أمور مسلَّمة لا تخفى على العقلاء، إلا أن القليل هم الذين يقومون بواجب استشراف المستقبل، ويخططون لذلك أحسن تخطيط، وهذا القليل هو الذي يكون النجاح حليفه غالباً {وقليل من عبادي الشكور}.

ومن أولئك القليل دولتنا العظيمة التي تسهر قيادتها وتدأب ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً على العمل الفالح بالتخطيط الناجح للمستقبل الواعد، ولذلك وصلت في نصف قرن من عمرها ما لم تصله دول كثيرة على مدى مئات السنين، فتخطت الحضارةَ الحاضرة اليوم إلى الحضارة الواعدة أكثر في المستقبل القريب، هذه الدولة المباركة التي لا تفتأ من إنجاز خطة خمسية أو عشرية حتى تتلوها خطة خمسينية ومئوية؛ ليكون الهدف المنشود حاضراً في العمل الجاري تنفيذه حتى يكتمل بناؤه وتشييده على أحسن وجه وأكمله.

ومن ذلك ما أعلنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، عن وثيقة مبادئ الخمسين التي تحدد المسار الاستراتيجي للدولة، في دورتها التنموية القادمة في المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية الداخلية، بناءً على توجيهات رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وبعد التشاور مع أخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد العام للقوات المسلحة.

إن هذه الوثيقة التي ترسم مستقبل الدولة، تعد منهجَ عملٍ متكامل لخمسين سنةً قادمة، ستكون، إن شاء الله تعالى، مليئةً بالإنجازات الضخمة التي تطمح إليها القيادة، والتي تحقق السلم والسلام والحوار والتنمية الشاملة في مناطقها كافة، وعبر قطاعاتها كافة، كما عبر بذلك صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد.

وفي ضوء هذه الوثيقة بمبادئها العشرة البالغة الأهمية، نستشرف ونخطط لمستقبل باهر، ينبهر به العالم أجمع، حيث تبلغ دولة الإمارات أوج العزة والسعادة، إن شاء الله تعالى، وهي وثيقة قابلة للتطبيق الفوري.

فما أن أُعلن عنها حتى شرع العمل في تنفيذها، بدءاً من تحديد الأولويات التي تجمع الإمارات السبع، وتطوير بيئة التعليم، والحفاظ على تفوق البلاد في عديد من المؤشرات العالمية، والتركيز على بناء اقتصاد متكامل ومتنوع، وغير مرتبط بالنفط، كما تم الإعلان عنه.

وبمثل هذا الاستشراف والتخطيط السليم نحققُ مبادئ الإسلام العظيمة، التي تدعو لصلاح الدين والدنيا، وعمارة الدنيا والآخرة، وتلك هي معالم الاستخلاف في الأرض، وبذلك نعطي للعالم كله، ولاسيما الإسلامي، أنموذجاً عملياً لمنهج الإسلام الذي يعيش مع زمانه ومكانه، كأنه في صدره الأول، ونعطي النموذج الحي للحكم الرشيد والعمل السديد، فيكون حجة على المتقاعسين الذين يسيرون القهقرى، فتعيش شعوبهم في تخلف وعناء، وقد كان بإمكانهم أن يصلوا الذُّرى، لو أنهم اتخذوا من وسائل الرقي أسباباً للعيش الكريم، والسعادة التي تنشدها الشعوب.

والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»


لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة