فلسفة العيد في الإسلام

شريعتنا الإسلامية السمحة شريعة إلهية جاءت لتحقق للمرء مصالحه النفسية والروحية، المادية والمعنوية، على حد سواء، فلم تهمل مطالب الجسد من أجل تحقيق كمال الروح، لأن ذلك سيؤدي إلى عدم المصداقية مع النفس أو إلى إرهاق الجسد حتى تضيع مصالحه ويفقد حقيقة استخلافه في الأرض كما فعله الرهبان الذين ابتدعوا رهبانيتَهم فما رعوها حق رعايتها، وهذا ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام يوم أن شرع التوسعة على النفس يوم العيد فقال: «لتعلمَ يهودُ أن في ديننا فسحةً، إني أُرسلت بحنيفيِّةٍ سَمحة».

والحنيفية هي الديانة المائلة عن الأديان الباطلة التي اخترعها الناس، أو التي حرف أهلُها دينَ الله الذي شرَعه لهم واستحفظهم إياه، فحرفوه حسب أهوائهم، أما ديننا فشرعٌ محكم لم يطرأ عليه تغيير ولا تبديل منذ أن نزل من الحكيم الحميد، لأن الله تعالى تولى حفظه بنفسه، وقد شرع لعباده ما يصلح حالهم ومآلهم؛ لأن الخلق خلقه وهو سبحانه أعلم بما يصلحهم، كما قال عز شأنه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وكان مما شرعه في العيد أن حبَّذ فيه ما لم يحبذه في غيره، وهو إعطاء النفس حظها من اللهو البريء، واللعب المباح، والتوسع في الطيبات من الرزق مما وسع الله به على العبد، كما روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه، دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنى تُدفِّفان، وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد» وقالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهم، أمْناً بني أرفِدة».

انتهر أبو بكر رضي الله عنه الجاريتين، وزجر عمر رضي الله عنه الحبشة؛ توقيراً وتبجيلاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأمَّن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع؛ لأنه يريد تشريع السَّعَة والأنس في هذه الأيام التي هي أيام العيد، وهي التي كان الناس في جاهليتهم قد اعتادوا فيها على المرح واللهو، كما روى أنس رضي الله عنه، قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر» فأقرهم على اللعب ولم يقرهم على اليومين؛ لأن اختيارهما كان تبعا للعادات، أما اليومان اللذان اختارهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانا تبعا للعبادات، إشارة إلى أن العبادة لا تفرط في حق النفس من الراحة والاستجمام، وقد وسع عيد الأضحى ليشمل أيام التشريق الثلاث حتى يتسع المرح شيئا مّا، ويشمل استكمال الأضاحي في الأيام المعدودات كما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب».

هذه المعاني التي يتضمنها العيد في شريعتنا ينبغي أن لا تغيب عنا في زحمة الحياة وتعقيداتها، ولكن بضوابط الشرع، فلا ينبغي الانفلات للتحلل من القيم والأخلاق تعللا بفسحة العيد، فإن الشرع إنما أَذِن في العيد بالمباح أو حبّذه في أحسن الأحوال، وأبقى الحدود محمية فلا تنتهك بأي حجة؛ لأن ذلك ظلم للنفس لا تفريج عنها.

إن العيد يعلِّم نبل الأخلاق فيحتم على المرء صفاء الطوية وسلامة الصدر من الغل والخيانة، فيتبادل الناس الهدايا والتحايا والتحاب، وذلك سبيل قوي لصفاء النفوس وسلامة الصدور، ويحتم تواصل الأرحام، وذلك سبب لبسط الرزق وإطالة الأثر، وبقاء أواصر القرابة التي نُساءل عنها كما نُساءل عن تقوى الله، ويحتم على الناس التعاطف والتراحم، فلا يبقى في المجتمع الغني ذا حاجة يصارع شدائد الحياة وحده، بل يكون العيد سبباً للبحث عمن نحسبه غنياً من التعفف، فضلا عمن يسأل الناس إلحافا، ويحتم النظر في من مسهم الضر في غياهب السجون لحقوق لزمتهم فيعطف عليهم ولاة الأمر فيفكُّون عانيهم، ويسدون مديونياتهم ويعفون عمن صلح شأنه واستقام اعوجاجه.

وهذا ما يلمسه الجميع في مجتمعنا المبارك بحمد الله وفضله.

تويتر