5 دقائق

وداع العام الهجري

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ما أسرع ما يمر علينا عام ونستقبل آخر! فنحن في زمن السرعة الفائقة في كل شيء، حتى في أعمارنا التي تطويها الأيام والليالي كطيِّ السِّجِل للكتب، ونحن في غفلة من أمرنا عن أعز ما نملك، وهو العمر الذي لا يشترى ولا يباع، والذي هو دقائق وثوانٍ، فنحن كما قال الشاعر:

- فإن تذكرنا ذلك فعلينا أن نحاسب أنفسنا لتدارك ما يمكن تداركه من حقوق وواجبات لربنا ولإخواننا ومجتمعنا وبلدنا.

تمر بنا الأيام تترى وإنما * نساق إلى الآجال والعين تنظرُ

فلا راجعٌ ذاك الزمان الذي مضى* ولا ذاهب هذا المشيب المكدِّرُ

غير أن سرعة هذا العام لم تكن سرعة سرور وحبور، التي تكون سنتُها سِنة، بل شِيبت بمكدرات الأخبار وطوارق الأخطار، في الليل والنهار، فأخبار الوباء ذهبت بساعات الصفاء، وأمنيات اللقاء، وطيب الوفاء، ففي كل وقت يسمع المرء خبراً مزعجاً من وفاة قريب أو إصابة حبيب، بل كل إنسان يترقب رهَباً أن تأتيه العدوى من حيث لا يحتسب.

وهكذا عاش الناس في هذا الهم من نحو نصف العام الهجري، ومازال يضرب بجِرانه الأرض ولمّا يأذن الله لنا بسماع خبر سار، يفيد أنْ قد تولى الأدبار، وانقشع منه الغبار، وذهبت عنه الآثار، فلا ردها الله على الدنيا ومن عليها ـ وليس على الله ببعيد -.

ها نحن نودع عامنا 1441هـ، وهو غير مودَّع ولا مُستغنىً عنه، ويودعنا وهو يحمل تاريخاً غير مسبوق، ستظل ذكراه أمد الدهور القادمة تطَّلع عليها الأجيال بعد الأجيال، ولعلهم يأخذون منه عبراً، ويذكرون أهل هذا العام بشيء من الترحم والإشفاق.

نودّع هذا العام ونحن بخير والحمد لله، على أمل أن نعيش الأعوام المقبلة فنستقبل عاماً ونودع آخر، إن أبقى الله لنا فسحة من الأجل، ولا ينبغي أن ننسى ونحن نودّع عامنا هذا أن علينا أموراً كثيرة، أهمها:

أولاً: أن نشكر الله تعالى شكراً كثيراً باللسان والجَنان والأركان أن نجانا الله تعالى مما ابتلى به كثيراً من عباده، حتى يكون شكره سبحانه حارساً لنعمائه دافعاً لابتلاءاته، فإن الشكر يقيّد النعم ويدفع النقم، وهو مُرضٍ للمولى سبحانه وتعالى، كما قال جل ذكره: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، ورضاه عن الشكر هو رضا عن الشاكر، كما يقول أهل البلاغة: مجاز مرسل من ذكر الحال وإرادة المحل، وكم له سبحانه وتعالى علينا من نعم أسداها لنا من غير استحقاق، تستوجب مزيد الشكر وبالغ الحمد!

ثانياً: أن نتذكر أنه قد مضى عام مَنَّ الله تعالى به علينا من العمر، طويت صفحته بخيره وشره، نفعه وضره، حلوه ومره؛ مضى بأعمال صالحة نسأل الله تعالى قبولها، وأخرى طالحة نسأل الله تعالى سترها وعفوه وعافيته، وبتقصير عن الطاعات، وتكاسل عن المسارعة في الخيرات والمسابقة في المَبرات، نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا على ذلك، وأن يبعث فينا همم كُمَّلِ الرجال الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويسارعون للخيرات وهم لها سابقون.

ثالثاً: فإن تذكرنا ذلك فعلينا أن نحاسب أنفسنا لتدارك ما يمكن تداركه من حقوق وواجبات لربنا ولإخواننا ومجتمعنا وبلدنا؛ لأن فرصة بقاء العمر ينبغي أن تُغتنم لجبر النقص وسد الخلل الذي قد يكون من العبد الخطاَّء، كما يشير لذلك قول الحق: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، فنذير الشيب، ونذير الموت، ونذير المحن والوباء، كل ذلك يقتضي تذكر الفائت، وجبر ما يمكن جبره، فمن كان قد فوَّت شيئاً فإنه معنيٌّ بتدارك نقص الواجبات فيقضيها، والحقوق اللازمات فيردها، وبتعهد التبعات فيردها أو يتحلل منها، فلعاقل من يحرص على أن لا يفوت ما يمكن تداركه، حتى لا يندم على التفريط، مع إمكان جبره، فقد ورد أنه: «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها»، وذكر الله بأداء الواجبات والحقوق المفترضات كذكره باللسان والجنان والأركان، لأن ذكره للمساءلة الربانية هو ذكر لذي الجلال والعظمة، وفي الذكر الحكيم ما يشير إلى ما يتمناه المرء بعد فوات الأوان: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، ولكن لات ساعة مندم.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر