احتراسات الوباء ومظاهر العيد

سيكون عيدنا هذه السنة مختلفاً عن أعيادنا السابقة، وكأني بقول أبي الطيب المتنبي:

عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدت يا عيدُ * بِما مَضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ

- كل واحد لا يريد أن يلحقه ضررٌ من غيره، فعليه أن يستشعر أن أخاه لا يريد أن يلحقه ضرر منه.

يحكي واقعنا بعد نحو ألف عام من قوله هذا؛ فهو يتألم لعيده الذي جاء بغير حال يسر؛ لفقده الأحبة الذين باعدتهم البيداء، وما درى أبوالطيب أن حاله كان أحسنَ من حالنا، فهو يشكو تباعد الأحبة أو فقدهم، وما درى أن عيدنا جاء وقد بعدنا عن أحب الأحبة لدينا وهي بيوت الله العامرة، وعن أقرب الأقربين، فلم نستطع التواصل الجسدي معهم، مع أن البِيد لم تفرّقهم، بل قد يجمعهم الدار أو الحي.

والعدو الذي حال بين الناس ومحبوبيهم ليس ذلك الإنسان الذي يحمل السلاح ويقاتل جهاراً فتُمكن مواجهته، بل إنه عدو خفي، أخفى من النفَس، ما يعني أن الاحتراس منه أوجب من كل مظاهر العيد وشعائره، وهو ما اقتضته النظم الصحية، وقبل ذلك النصوص الشرعية، فإننا وإن كنا مطالبين بالخروج لصلاة العيد في المصليات والمساجد الكبيرة لإظهار شعيرة العيد، والفرح به وبنعمة الله تعالى علينا بتمام الصوم؛ فإننا مطالبون في المقام الأول بالحفاظ على صحتنا وصحة الآخرين، وذلك باتخاذ وسائل الوقاية من انتشار العدوى، وأهمها التباعد الجسدي، ولزوم البيوت، حتى يفرج الله علينا برفع هذا الوباء، فهذا الأمر هو أهم مهماتنا في هذا العيد.

ولا يمنعنا هذا الحجر الصحي من أداء شعائر العيد كاملة غير منقوصة، فنكبر الله تعالى من حين الإعلان عن دخول شهر شوال بثبوت الرؤية أو إتمام العِدة، إلى الشروع في صلاة العيد، ومن الاغتسال ولبس الجديد والتطيب والمبادرة بتناول تميرات قبل الصلاة، ثم أداء صلاة العيد فرادى أو مع الأسرة في البيت، بالكيفية المشروعة في صلاة العيد، وهي صلاة ركعتين، يكبر في الأولى ستاً أو سبعاً بعد تكبيرة الإحرام، يفصل بين تكبيرة وأخرى بذكر – سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر– وفي الثانية خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، بنحو ما تقدم في الركعة الأولى، فهذه صلاة العيد المسنونة وآدابه وسننه التي ينبغي للمسلم أداؤها اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما أمرنا بقوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وهذه استطاعة كل أحد، فلم يمنعنا «كورونا» من أدائها، مع أسفنا أننا لم نستطع إظهارها كما يكون في الأحوال العادية، لكن أجرنا غير منقوص؛ فلم يمنعنا من الكمال إلا ما هو أهم منه، وهو درء المفسدة الذي يقدم على جلب المصلحة.

وأما التواصل الأسري والاجتماعي فهو أيسر من ذلك بكثير، فإنه حاصل بما يسر الله تعالى من وسائل التواصل الاجتماعي بهذه التقنية التي تجمع المتباعدين في أرجاء المعمورة في غرفة إلكترونية واحدة، فيحصل فيها من تبادل التحايا وتجاذب أطراف الحديث كما يكون في الاجتماع المباشر، وهذا من فضل الله تعالى ونعمه على عباده التي تستوجب الشكر، فعلينا الاستفادة القصوى منها بتحقيق التواصل والزيارة الإلكترونية، ولْننسَ العادة الاجتماعية الحميدة في هذا الظرف.

ومعلوم أن كل واحد لا يريد أن يلحقه ضررٌ من غيره، فعليه أن يستشعر أن أخاه لا يريد أن يلحقه ضرر منه، والضرر متوقع من الجميع، فإن هذا الفيروس قد يكون في جوانح الإنسان وهو لا يشعر، فلا يثق أي امرئ بنفسه وبراءته، كما تقول الحكمة: «من مَأْمَنِه يؤتى الحذِر»، وهذا الوضع الصحي يجعل الناس أجمعين متهمين بحمل الفيروس حتى تثبت البراءة، بعكس القاعدة القانونية «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، لأن التهمة هنا خفية غير مدركة، فكانت إساءة الظن في هذا المقام محمودة، ويشهد لها ما روي «احترسوا من الناس بسوء الظن»، كل ذلك من أجل حماية المرء نفسه ومجتمعه، وإعمالاً للمقصد الشرعي الأسمى بالحفاظ على النفس، والتزاماً بتوجيهات القيادة الرشيدة التي جعلت صحة الناس أولى الأوليات، فضحت من أجلها بكبريات المصالح الاقتصادية وغيرها، وعلينا أن نقدر ذلك ونكون عوناً لها.

نسأل الله تعالى أن يعيد العيد بحال جديد، وعمر مديد، وصحة لا تبيد.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة