سريالي

برلين.. إيفان.. أوبر!

أحمد المظلوم

أشعر بأن أطرافي قد بدأت بالتصدع، رائحة الأسمنت تبعث نفسي إلى الاشمئزاز، لكنني مازلت أسير في طريقي هادئ البال، حاملاً بكل سرور كل ما يمرّ فوقي بلا كلل أو تذمر. شهدت أيام التمزق السياسي التي فرقتنا إلى اثنتين وثلاثين دويلة، لكنني مازلت أسير في طريقي هادئ البال حاملاً بكل سرور كل ما يمر فوقي بلا كلل أو تذمر. شاهدت فريدريك الأكبر وبسمارك وهتلر في قمة مجدهم وأثناء سقوطهم، غسلت دماء الشهداء والأعداء بلا تفرقة، وربما أغرقت بعضهم عن غير عمد! كنت في فترة الحرب الباردة أتسلل إلى ألمانيا الغربية ثم أعود إلى ألمانيا الشرقية على الدوام بلا توقف، ولم يكن أحد قادراً على إيقافي! كما تعجبت كيف يمكن لجدار أصم لا يتعدى طوله أربعة أمتار، أن يحول بين البشر ليرسم لهم حياة مختلفة تماما في كلا الجانبين. وإن كان هناك درس قد تعلمته فهو أن الإنسان في أغلب الأحيان لا يعلم أين مصلحته، فإذا هو وُجد في مجتمع منغلق يقول له افعل كذا ولا تفعل كذا فإنه سيعيش فيه طوال حياته ليعمل بهذه المبادئ والغبطة تملؤه، مؤمناً بأن هذه هي الحقيقة الأسمى. لذلك بنظري لا يوجد هناك نظام صحيح على مر العصور، بل قادة مؤثرون أقنعوا الشعوب بأن هذا النظام صحيح، ولكم أن تنظروا إلى التحول المخيف الذي حدث للشعب الألماني النجيب في فترة حكم النازية، بعد أن آمنوا بأن هذا النظام «صحيح». أنا الشاهد الصامت على هذه الأيام البشعة التي ولّت، وعلى الرغم من ذلك مازلت أسير في طريقي هادئ البال حاملاً بكل سرور كل ما يمر فوقي بلا كلل أو تذمر. اسمي شبري وأنا نهر برلين. ماذا؟ هل قرأت جميع كتب نيتشه؟! قلت لإيفان مستغرباً بعد أن أزحت نظري عن نهر شبري الذي كنت أحدق فيه لأكثر من دقيقة، فأجاب بحماسة: «نعم ولدي اهتمام خاص بكل ما يخص الفلسفة والأدب، فقد قرأت للكاتب الروسي ليو تولستوي (آنا كارنينا) ورواية الحرب والسلم، التي وجدتها مملة في مواضع عدة، كما قرأت جميع كتب تشارلز بوكوفسكي». ثم قلت معقباً: رائع! قل لي يا إيفان هل قرأت رواية دون كيشوت؟ قال: «نعم ولا، لأنني قرأت أجزاء متفرقة منها فقط في أيام الدراسة، لكنني على علم بأحداث القصة بشكل عام». ثم تذكرت أن أغلب الروس قد تلقوا دروساً عن رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي في المدرسة، لكن قلة منهم استطاعت إكمال قراءة الرواية بعدها، فتوصلت إلى هذه القناعة بأن التعليم لن يجدي نفعاً مع الطالب إذا ظل نظامه يدور حول إرغام الطالب على قراءة شيء ما أو كتابة شيء ما، ولو كانت هذه الأشياء لمصلحته، فالإنسان متمرد بطبعه، والحل يكون في منحه مساحة للتفكير لنفسه.

كم من مدعي معرفة يفقد ما يدعيه! وإيفان ليس منهم، جمعتني به عشر دقائق فقط في رحلة «أوبر» كان هو ربانها، لكنه أذهلني بغزارة علمه ورجاحة عقله، فلا ينبغي علينا أن نحكم على المرء من مظهره أو شكله، ما يهم هو ذلك الذي يقف خلف صدره والذي يحمله رأسه. قبل أن أصل إلى وجهتي سألته قائلاً: هل سأقرأ لك كتاباً يوماً ما؟ فأجاب: «ولم لا! على الرغم من صعوبات الحياة التي تواجهني لكنني مازلت أسير في طريقي هادئ البال حاملاً بكل سرور من يركب معي بلا كلل أو تذمر». نظرت إلى نهر شبري ثم التفت إلى إيفان ثانية/ ولست أدري من قال هذه العبارة أولاً.

Ahmed_almadloum

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر