5 دقائق

أفنان الكتب

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

توصف الحدائق ذوات الأفنان المختلفة بأنها بهجة النظر ومُسلِّية الكدر وشارحة للصدور، كما وصفها الله تعالى بقوله «حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ»، فيؤمها الزوار يبتغون منها فسحة ومتعة، ويرجعون من عندها بنشاط متجدد، غير أن هناك حدائق قد تكون أكثر بهجة لمن يعرف قدرها؛ لأن بهجتها مستمرة، فهي لا يتساقط زهرها ولا تذبل ثمارها، ولا تبلى بمرور الأيام، بل تبقى ذات بهجة متجددة، وقد تزداد بهجتها بكثرة النظر إليها. إنها حدائق المعرفة التي تكون في صالات وأروقة المكاتب الهادفة، الحدائق التي تشرح صدر الناظر فضلاً عن القارئ، والتي يتفيأ ظلالها كل عاقل يحب أن ينمو عقله ويكثر رشده ويزداد وعيه، إنها حدائق الحاضر والمستقبل والماضي، وحدائق الدنيا والآخرة، وحدائق محمولة ومستودعة، وحدائق ذوات ألوان وروائح مختلفة جداً، أما ثمارها فيانعة، وأما طعمها فشهي، إنها الكتب القيمة التي تثقف وتنمي وتفتح الآفاق وتوسع الأرزاق وتكبر العقول وتنقح الأفهام.. فلا يقصر مسمى الحدائق على البساتين والمزارع ونحوها، فهذه حدائق الأجساد، وتلك حدائق الأرواح.

ذلك أن الإنسان مكون من مادة وروح، أما المادة فتحتاج ما يجدد نشاطها من ماء وخضرة ووجوه حسان ومناظر جميلة وكلام شجيٍّ.. فكل ذلك ينفع الأجسام البشرية فيزيدها حيوية ونشاطاً، أما الأرواح فتحتاج ما يناسبها من معانٍ جميلة ومنافع ذوقية، وهي المعارف والحكم التي يتلقاها عن الحكماء الأحياء بمجالستهم وسماع مقولاتهم، وقراءة مسطورهم النافع الذي يخلد ذكرهم ويبقي أثرهم ويجدد حياتهم.

وهؤلاء الكتَبة كثيرون بحمد الله، إلا أن النافع منهم قليل، فهو الذي يبحث عنه بالمناظر والتلسكوبات الحديثة، ودخول حديقة الكتب الغناء ذات الأفنان المختلفة يقتضي من الداخل أن يستعمل هذا المنظار الذي يميز الغث من السمين، فإن كان يحسن استخدامه فذاك، وإلا فليصحب خبيراً يسأله ويقتفي أثره ليريه السُّها الذي لا يرى إلا لحادّ البصر أو بآلة المجهر، ذلك أن الغث كثير، والتكلفة كبيرة، فإن أسعار الكتب أصبحت بالقناطير، ولم يعد تسعيرها بحسب القيمة العلمية التي يحتويها الكتاب، بل بالكم الورقي والمظهر الإخراجي للكتاب، فاستوت فيه «البغلة العرجاءُ والفرسُ».

إن اقتناء الكتاب النافع هو اقتناء صديق صدوق وصحبة خبير حاذق، تنتفع منه في حياتك، وتتركه أثراً لك بعد وفاتك، ولعله يكون من العلم النافع الذي يسري لك أجره بعد وفاتك، فلا تبخل عن نفسك بالسياحة في حدائق الكتب الغناء وشم أريجها، وحيازة النافع منها وقطف ثمارها الشهية البهية.

وقد زخر معرض الشارقة 36 للكتاب بالكثير المفيد من هذه الكتب القيمة - كعادته في كل دورة - وأصبح أكبر معرض دولي للكتاب بنوعه وتنظيمه المتميز، ويعد إحدى مفاخر الإمارات عموماً والشارقة خصوصاً، كما أشاد بذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد - رائد نشر القراءة والمعرفة عربياً - حيث قال: «أخي صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي أسس أحد أكبر وأهم المعارض للكتاب والنشر في العالم».

ذلكم هو معرض الشارقة المتميز، الذي حظي باهتمام منقطع النظير من حكومة الإمارات، حيث زارته بكَلْكَلِها، وأناخت بفنائه ليكون اجتماعها لإقرار ميزانيتها الضخمة لسنوات عدة بين رفوف الكتب وصرير تقليب الورق من الزائرين، لتؤكد للناس أنها حكومة واعية قارئة مشجعة للقارئ والمقروء، وبانية للمعرفة؛ لأن الكتاب هو وعاء العلم والحضارة والثقافة والمعرفة والآداب والفنون، والوسيلة التي تمكن المرء من رسم قصة نجاح المستقبل الواعد، كما قال رائد نشر القراءة والمعرفة حفظه الله تعالى ورعاه.

وقد جربت الإمارات ذلك عام 2016، فجعلته عام القراءة، وحظي باهتمام منقطع النظير في مسابقة تحدي القراءة، فاجتذب ملايين الناس للدخول في حلبة التحدي النافع للفكر والباني للحضارات، ومضمار هذا التحدي هو الكتب التي تنمي العقل وتغذيه بمعارف نافعة بقراءتها وتحليلها ونقدها، وابتكار ما لا يوجد شبيهاً لها أو متمماً لنقصها، فقد ترك الأول للآخر الكثير، فليسلك الآخرون مسالك الأولين، وليتفوقوا عليهم بمستجدات التقنية ومسرعات التقدم.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر