أبواب

دعوة للجنون

محمد حسن المرزوقي

يُحكى أن ساحراً أراد تدمير مملكة بكاملها، فدس جرعة سحرية في البئر التي يشرب منها السكان، تصيب كل من يشرب منها بالجنون. في صباح اليوم التالي، شرب جميع السكان من البئر، فغدوا كلهم مجانين، باستثناء الملك وعائلته، إذ كانت لديهم بئرهم الخاصة، وصَعُبَ على الساحر دس السم فيها.

• كلمة «المجنون» التي اعتدنا إطلاقها باستهتارعلى كل من يخالف رأيه رأينا، وسلوكه سلوكنا وطقوسه طقوسنا لا تعني بالضرورة أننا أكثر «عقلانية» ممن نصفهم بالمجانين.

قلِق الملك، وحاول ضبط السكّان بإصدار سلسلة من القوانين والتشريعات، لكن رجال الشرطة كانوا قد شربوا من البئر أيضاً، فاعتبروا قرارات الملك مبهمة، وتغاضوا عن تنفيذها. عندما تناهى خبر هذه القوانين إلى السكان، تولدت لديهم قناعة بأن الملك قد جن، وأنه يصدر أوامر بلا معنى، فطالبوا بتنحيه عن العرش.

وبعد أن يئس الملك، قرر الرضوخ لمطالب الشعب، لكن الملكة ردعته قائلة «فلنشرب من بئرهم لنصبح مثلهم»، وبالفعل شرب الملك والملكة من بئر الجنون وبدآ فوراً بالهذيان. تاب إذ ذاك أعوانهما وسكان المملكة عن المطالبة بعزل الملك، وفكروا في ما يغدقه عليهم من حكمة، وهكذا ظل الملك قادراً على الحكم حتى آخر أيامه.

هذه القصة الفولوكلورية يذكرها الكاتب البرازيلي، باولو كويلو، في روايته «فيرونيكا تقرر أن تموت»، التي يفلسف فيها لمصطلح الجنون، يشكّك في معناه المتداول، ويعيد تعريفه من جديد، فالمجنون عند باولو ليس سوى شخص «مختلف»، يرفض العيش ضمن قطيع، ويتمرد على مجتمع يفرض على أفراده طريقة جماعيّة للسلوك. فأن تكون مختلفاً، رافضاً، ومتمرّداً، يعني أن تكون بالنسبة للمجتمع مجنوناً ببساطة.

في كتابه «حكاية الحداثة»، يسهب الناقد السعودي، عبدالله الغذامي، في تحليل المرتكزات التي يستند إليها المجتمع المحافظ التقليدي لإشهار اعتراضه على «المختلف»، فيسعى جاهداً إلى تشويه صورة هذا «المختلف»، من خلال وصفه بصفات تهدف إلى التشكيك في صدقيته، مثل وصفه بالجنون، بقصد تنفير النّاس منه.

هذه الآليات التي يستعين بها الوعي المحافظ لرفض المختلف والجديد ليست وليدة هذا العصر، بل لها جذور ضاربة في عمق التاريخ العربي، وقد استخدمها كفار قريش لمحاربة ورد الدعوة المحمدية. فكانت إحدى أشهر التهم التي وجهت إلى الرسول، وتكفل الخطاب القرآني بردها، «الجنون». قال تعالى نقلاً عن المشركين: «وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون»، وقال تعالى لدفع التهمة: «وما صاحبكم بمجنون».

هذه النمطيّة الإقصائيّة في التفكير لا تخص كفار مكة، بل نجدها تتكرر في سير كثير من الرسل، واستخدمتها مجتمعات كثيرة لإقصاء من يسلك سلوكاً رأياً مختلفاً عن السلوك الرأي التقليدي.

إذاً، كلمة «المجنون» التي اعتدنا إطلاقها ــ باستهتار ــ على كل من يخالف رأيه رأينا، وسلوكه سلوكنا، وطقوسه طقوسنا، لا تعني بالضرورة أننا أكثر «عقلانية» ممن نصفهم بالمجانين. من يدري، فقد يكون هؤلاء الذين يسمون أنفسهم «عقلاء» هم الأكثرية المجنونة في الحياة، وقد تكون هذه الحياة مصحّاً كبيراً، كما يقول الشاعر الفرنسي بودلير، ونحن «العقلاء» نزلاؤه!

al-marzooqi@hotmail.com

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر