أبواب

ليلة القبض على الحقيقة!

محمد حسن المرزوقي

يقول الأديب الإيرلندي صموئيل بيكيت «الحقيقة تسافر أسرع من الضوء». في الحقيقة، إنها كذبة، لقد نُسب هذا القول زوراً لبيكيت، إذ لا يمكن أن يصدر مثل هذا القول السخيف عن بيكيت الحائز جائزة نوبل للآداب، أولاً لأن الحقيقة هي السلحفاة العجوز في قصة السباق بين الأرنب والسلحفاة، حيث كل المخلوقات والكائنات والمواد في هذا الكون تسافر أسرع منها، وثانياً لأنّ الحقيقة لو فكّرت في السفر فعلاً، فستسافر غالباً على درجة «رجال الأعمال»، لأنّها عجوز كما ذكرت قبل قليل، ولا يستطيع راتبها التقاعدي أن يوفّر لها تذكرة سفر بسعرٍ فلكيّ. لو كان صموئيل بيكيت سيقول شيئاً مشابهاً، فأتوقع أن يكون «الحقيقة المغلوطة تسافر أسرع من الضوء!».

• الحقيقة تسافر ببطء وبقليلٍ من الجهد والصبر ستصل حتماً إلى وجهتها.

قبل أشهر، نشر صحافي تركي تغريدة عبر «تويتر» يتهكّم فيها قائلاً «بأن الأتراك لا يعرفون أبوظبي»، فوضعت له ‏من باب التهكّم المضاد اقتباسات للأديب الفرنسي أندريه جيد، يصف فيها مدينة إسطنبول، بعد زيارتها، بـ«المدينة الكريهة جداً»، وأن الشيء الوحيد الذي رآه مجلباً للبهجة فيها هو «الرحيل عنها!».

بطبيعة الحال جاءت ردات الفعل متنوعة، كان أفضلها قيام الصحافي بحظري، ما خلصني من متابعته ومتابعة تغريداته، وأسوأها كان دفاع الكثيرين من العرب عن الدولة العثمانية التي رحم الله البشرية بسقوطها عام 1923. أحد المتابعين المتحمسين وضع لي عبارة لنابليون بونابرت يقول فيها «لو كان العالم دولة لكانت إسطنبول هي العاصمة»، وبحماس مشابه قمت بالبحث عن مصدر العبارة في «غوغل»، وهي عملية أمارسها عندما أعاني الملل والفراغ، ورغم وجود مئات المواقع التي تنقل العبارة عن بعضها بعضاً إلا أنني لم أعثر على مصدر يؤكد صحة نسبتها إلى بونابرت.

صحيح أنه لا يُفتى، هذه الأيام، والشيخ «غوغل» في المدينة، إلا أنه شيخ يخطئ كثيراً ولا يجب الوثوق بكل ما يصدر عنه!

التقيت قبل فترة بأحد الأصدقاء على طاولة مقهى، وسألني ونحن نحتسي القهوة، إن كنت أعرف قصة المسجد المطبوعة صورته على ورقة خمسة دراهم، ولأنني لا أعرف كيف أقول «لا أعرف» بطريقة مباشرة، أجبته بأنني لا أتعامل إلا بالأوراق النقدية من فئة الـ١٠٠، ضحك صديقي، وقال لي «حتى أنا لم أكن أعرف»، ثم سرد لي قصة طريفة ومثيرة.

اعتاد هذا الصديق، الذي يشغل منصب مديرٍ في إحدى الشركات، أن يرسل في نهاية كل شهر سؤالاً لموظفيه، بغرض تخفيف ضغط العمل «أو ربما زيادته عليهم»، ويعلن عن الفائز مع نهاية اليوم.

في إحدى المرات، وبينما كان يتصفح جريدة محلية، قرأ تقريراً عن ترميم مسجد سالم المطوع التاريخي في مدينة خورفكان «الذي كان يعرف باسم مسجد الشرق بحسب الصحيفة»، وقرر أن يرسل السؤال التالي «ما هو الاسم القديم لمسجد سالم المطوع الذي يظهر على ورقة النقد من فئة خمسة دراهم؟»، وخلال دقائق جاءت عشرات الردود المتطابقة في إجاباتها وصياغتها وأخطائها النحوية، وكأن الموظفين كانوا يغشون من بعضهم بعضاً، أو من شخص واحد هو «غوغل» بطبيعة الحال.

قبل أن يعلن عن الفائز والإجابة الصحيحة، أو التي اعتقد أنها صحيحة، وصلته إجابة من موظف هندي غيرت قواعد اللعبة. على عكس البقية، أجاب الموظف بأن المسجد كان يسمى «مسجد الغرب»، ووضع رابطاً لمقال باللغة الإنجليزية يؤكد إجابته.

يستطرد صديقي قائلاً: كان يُمكنني - ببساطةٍ - أن أتجاهل إجابته لثقتي بأنها خاطئة، وهو لن يجرؤ بالطبع على مساءلتي، لا لأنني مديره، بل لأنني أدرى بشعاب الإمارات لكوني من أهلها. ثم ما قيمة إجابة واحدة مختلفة وردت - ربما - نتيجة الإهمال في النقل واللامبالاة في مقالة باللغة الإنجليزية، أمام سيل من المقالات والموضوعات باللغة العربية جميعها تؤكد أن اسم المسجد «الشرق».

قرر صديقي لحلّ هذه المعضلة التواصل مع «فاطمة المغني»، الباحثة الاجتماعية والخبيرة في التراث الشعبي، وأكدت له أن الاسم القديم للمسجد هو «الغرب» لأنه يقع في غرب مدينة خورفكان.

ألم أقل لكم بأن الحقيقة تسافر ببطء، وأنها بقليلٍ من الجهد والصبر، ستصل حتماً إلى وجهتها.

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر