أبواب

مطلوب حرامي آثار

محمد حسن المرزوقي

المدن نوعان، نوعٌ يهزّ جذع اللغة لتُساقط خُطَباً عنها وغزلاً بها، ونوعٌ تعجز اللغة عن الإحاطة بجمالها وسحرها. وقرطبة، التي جبتها سائحاً لا فاتحاً، هي مدينة من النوع الثاني، يتعطّل في حضرتها الكلام.

• جلستُ في حديقة قصر قرطبة، حيث أشجار النارنج تحيط بالبركة الداخلية للقصر، مستمتعاً بالدفء الذي تبثه الشمس على استحياء، وبينما كنت غارقاً في تأملاتي وخيالاتي، سمعتُ شخصاً يُلقي تحيةً باللغة العربية.

حينما يزور العربي قرطبة سيشعر كما لو أن الزمن عاد به إلى الوراء. سيشاهد الفيلسوف ابن رشد يحثّ الخطو نحو جامع قرطبة وهو يتأبط كتابه الشهير «تهافت التهافت»، وسيرى الطبيب موسى بن ميمون يدخل فرِحاً إلى منزله في الحي اليهودي، بعد أن وقّع للتوّ عقداً للعمل طبيباً خاصاً لصلاح الدين الأيوبي، وسيشنّف أذنيه بالموسيقى التي تنبعث من عود زرياب، بعد أن أضاف إليه الوتر الخامس، وسيلمح في زقاق مظلم ابن زيدون وولادة بنت المستكفي مستغرقين في موعد غرامي بعيداً عن الأعين. ثمّ سيشعر، بعد ذلك، بعظيم الامتنان للإسبان الذين صانوا الذاكرة العربية بحفاظهم على هذه الآثار.

هكذا شعرتُ وأنا أتجول في أزقة وحارات قرطبة، ولولا أن قدميَّ المتعبتين هددتا بإعلان العصيان، لنسيت أنني لم أتوقف عن المشي لأكثر من خمس ساعات بسبب ما كنت أشعر به من إثارة وسعادة.

جلستُ في حديقة قصر قرطبة، حيث أشجار النارنج تحيط بالبركة الداخلية للقصر، مستمتعاً بالدفء الذي تبثه الشمس على استحياء، وبينما كنت غارقاً في تأملاتي وخيالاتي، سمعت شخصاً يُلقي تحيةً باللغة العربية، وقبل أن أتساءل بيني وبين نفسي عن المقصود، اقترب مني رجل عربي، تبين لي في ما بعد أنه مرشد سياحي، وجلس إلى جانبي على الكرسي. ويبدو أنه اعتقد من طريقة جلوسي وتأملي للمكان، وربما من ملامحي وهيئتي، أنني مجرّد عربي آخر جاء إلى الأندلس ليبكي على أطلال الفردوس المفقود!

بدأ يتحدث عن جامع قرطبة، الذي حوّله المسيحيون إلى كاتدرائية، وما أصابه على أيديهم من تشويه ودمار وخراب، ثم تحول بالحديث إلى المؤامرة الصهيونية التي تسعى إلى إعطاء الآثار اليهودية في قرطبة أكثر وأكبر من حجمها، وانتهى بتوجيه الشتائم للإسبان الذين شوّهوا المعالم العربية في المدينة ببناء التماثيل لملوكهم.

بعد أكثر من نصف ساعة من الغيرة المفتعلة على الآثار الإسلامية، قام الرجل ليودّعني، وقبل أن يستدير، ألقى بعقب سيجارته على الأرض، وهرسها بكعب حذائه، ثم مضى من حيث أتى.

استدعى هذا المشهد الكاريكاتيري من ذاكرتي قصة رواها الكاتب العراقي خالد القشطيني، تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب أكثر حرصاً وخوفاً على آثارنا منا.

في حرب الخليج الثانية، قام النظام العراقي بوضع طائراته الحربية، حرصاً على سلامتها، بين آثار مدينة أور، لأنه كان واثقاً بأن الغربيين أكثر احتراماً للآثار من أصحابها، ولن يجرؤوا على قصف الطائرات وتعريض الآثار للخطر، وهو ما حصل بالفعل.

قبل سنوات زرت متحف «اللوفر» في باريس، ولم أستطع أن أخفي انزعاجي وأنا أتجوّل بين الآثار التي سرقتها فرنسا من الشعوب الأخرى على امتداد تاريخها. كانت التجربة أشبه بدخول مغارة، كمغارة علي بابا والأربعين حرامي، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر من كنوز منهوبة.

ولكنني اليوم، وأخبار هدم «داعش» للآثار في العراق وسورية تطالعنا صباح مساء، أدركت كم كانت نظرتي قاصرة وساذجة آنذاك، وكم أن آثارنا المنهوبة.. في أيدٍ أمينة.

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر