«تصفير» الحضارة

من المألوف عندما تذهب إلى محطة غسل السيارات، أن يقوم العمال بمراحل التنظيف المختلفة بالماء والصابون في الخارج، ثم يخرجون الدواسات ويرشونها بالماء المضغوط، وينفضون الفرش بالمكنسة الكهربائية، ويعطّرون السيارة من الداخل، ثم يقومون بتغيير الزيت ونفض المحرك بخرطوم الهواء، وبعد ذلك يسجّلون قراءة عدّاد السيارة، و«يصفّرون» الكيلومترات المقطوعة، لتعدّ من جديد، إلى أن يحين موعد غيار الزيت القادم.

ويحدث أحياناً عندما يصبح جهاز الكمبيوتر بطيئاً وثقيلاً، و«يعلّق» عن الخدمة، ولا يستجيب للأوامر أن تأخذه للفني، فيقوم بعملية «الفرمتة»، وهي شطب كل الملفات من غير تعيين، وتنظيف الجهاز من الفيروسات، وإعادة تحميل البرامج المهمة بغض النظر عما تم شطبه.. فهذه العملية تشبه إلى حدّ بعيد «التصفير».

ومررنا بتجارب يحدث فيها خطأ ما في الهاتف النقال، فلا تستطيع أن تتصل أو تردّ على المتصل، فتضطر مكرهاً في محل «الموبايلات» إلى أن تعمل «سوفت وير» للجهاز، وشطب كل ما سبق من صور ورسائل ومقاطع فيديو، حتى لو كانت لا تقدر بثمن.

**

وأنا أشاهد عناصر من «داعش»، وهم يقومون بتكسير تحف فنية وحضارية أعمارها آلاف السنين، وتحطيم المنحوتات والمجسمات في متحف الموصل، وتشويه المداخل الحجرية بكل أدوات التخريب، وتجريف منطقة أثرية كاملة، مثل منطقة النمرود.. دون أدنى اعتبار للسنوات الطويلة التي مرت عليها، عن تاريخ وحضارة من سبقونا، دون أدنى اعتبار كم شتاءً، وكم صيفاً، وكم حرباً، وكم سلماً، وكم زعيماً، وكم طفلاً عاصروها، وهي شاهدة على نهضتنا وتخلّفنا، وحدتنا وانقسامنا، ارتقائنا وسقوطنا، فجأة تمحى هكذا بالفأس على مرأى العالم ومؤسساته الثقافية والتراثية، كما يمحى الحرف من الصفحة.. ببساطة إنهم يقومون بـ«تصفير» الحضارة، لتعدّ من جديد سنوات طويلة في السواد والظلمة والتخلف والجهل والقتل!

هذه التماثيل لم تقتل 3000 طفل في غزة، هذه التماثيل لم ترمِ المدن الفلسطينية بالقنابل الفسفورية، هذه التماثيل لم تحاصر العراق 13 سنة، لم تقتل مليون عراقي عربي ومسلم، هذه التماثيل لم تصوّت بـ«الفيتو» على مشروع إدانة الكيان الصهوني، ولم تقسم السودان ولم «تخربط» مصر، ولم تشعل سورية، ولم تفتت ليبيا.. هذه التماثيل تماماً مثل الشعوب العربية، تمر السنين على جسدها دون أن تأتي بحركة، لم تختر وضعيتها، هم من اختاروا لها ذلك، صامدة، صامتة، شاهدة على العصر، وشاهدة على «الخُسر» أيضاً، تدمع عرقاً في صيف الأحزان، ورطوبة في شتاء الفرقة، نحن وتماثيل الموصل تتوارثنا الإمبراطوريات وأيدي السرّاق.. نحن ومنحوتات الموصل تقاسيم مجفّفة في متحف النسيان!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة