البحث عن أسرار النص

اللافت للانتباه أن يكتب القاص أو السارد قصة قصيرة جداً في ثلاثة أسطر، ويكتب في الوقت نفسه رواية في أكثر من ‬300 صفحة من القطع الكبير. لافت للانتباه لأنه يشكل مدخلاً ربما لفهم التداخل بين الأجناس الأدبية، ولوضع اليد على الفروق بينها في الآن عينه.

نحن نتحدث هنا عن سر اللجوء إلى أشكال متباينة في السرد عند السارد الواحد، ما يعني أن هذا التباين حتمي، فنياً وموضوعياً، وإلا لما لجأ إليه السارد، وهذا ما فعله أخيراً القاص محمود شقير، الذي اشتغل على تقنيات القصة القصيرة جداً منذ نحو عقدين، وفي الوقت نفسه طور من كتابته القصصية عندما تسلح بالضحك في مواجهة الاحتلال، ثم أصدر أخيراً روايته «فرس العائلة» التي جاءت في ‬312 صفحة من القطع الكبير.

لن أتناول هنا تجربة محمود شقير، لكني أوردتها فقط مثالاً في هذا السياق الذي لايزال يعتبر من المناطق الساخنة في الأدب، من حيث الحوارات فيه، والرضا والقبول، بعد أن بردت جبهة الشعر ـ الحر والخليلي ـ من جهة، وقصيدة النثر من جهة ثانية.

يبدو الفارق في الحجم كبيراً جداً بين قصة في ثلاثة أسطر، ورواية في ‬312 صفحة، على الرغم من أننا كنا أحياناً نتوه بين القصة القصيرة ـ الطويلة ـ والرواية، إلى أن ظهر تجنيس الرواية القصيرة، وأطلق الغرب عليها تسمية «النوفيللا»، لكننا الآن لسنا تائهين في الحجم، الذي بدا كعلامة أولية على الفروق بين القصة القصيرة جداً من جهة، والقصة القصيرة، لكن الحجم ليس فارغاً، بمعنى أن السؤال يجب أن يكون مختلفاً بعض الشيء، فنقول مثلا: لماذا تطلبت هذه القصة ثلاثة أسطر، بينما تتطلب قصة أخرى ‬10 صفحات مثلاً أو خمساً؟ فالأسطر الثلاثة تشكل قصة مكتملة، والصفحات الـ‬10 تشكل قصة مكتملة، أي أن هذا الحجم ليس اعتباطياً ولا مجرد تعبئة أوراق أو مساحة على جهاز الحاسوب.

في بداية شيوع القصة القصيرة جداً، كان كثيرون مولعين بهذا الحجم المفاجئ في حد ذاته للقارئ، أي أن الحجم هنا كان يشكل سمة فنية، وهي الدهشة التي يبحث عنها الكاتب عند المتلقي، لكن هذه الدهشة أخذت في التلاشي الآن، بعد شيوع هذا الفرع من القصة، وهو ما تطلب بحثاً حقيقياً وجاداً عما ينبغي للقصة القصيرة جداً أن تكون عليه، وما تقدمه.

وإذا كانت القصة القصيرة جداً في بداياتها شهدت انفتاحاً على قصيدة النثر، ولجأت إلى لغة الشعر لا إلى روحه، فقد أدركت بعد حين أن أهميتها وتميزها لا يأتيان من استخدام هذه اللغة، ولا بالاتكاء على جنس أدبي آخر.

تبدو الملاحظة الأساسية التي نبحث عنها موجودة في لب السرد وجوهره، رواية وقصة طويلة أو قصيرة أو قصيرة جداً، وقد أدرك الكثيرون، خصوصاً الشباب، أن عنصر الحكي في السرد يعد الركيزة الأساسية له بمختلف فروعه وتفرعاته، لكن السؤال الذي قد يُطرح الآن هو: هل ثمة حكاية في ثلاثة أسطر؟ والإجابة عن هذا السؤال ستجعلنا نكتشف الأسرار التي جعلت من هذه الكتابة كياناً مستقلاً قائماً بذاته.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة