صناعة التعليم

صناعة الموهبة

د. عبداللطيف الشامسي

ركّز النظام التعليمي في المنطقة العربية، حتى بدايات القرن الماضي، على القرآن الكريم وعلومه، وبعض المهارات الأساسية للقراءة والكتابة، ومن ثم تطبيق التعليم النظامي المشابه لنظم التعليم الأكاديمي الغربي، بمراحله الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وعلى الرغم من تقدم أنظمة التعليم في العالم، إلا أن التعليم العربي ظل نظاميًا مبالغاً فيه، لدرجة أن أنظمة التعليم غدت هيكلاً تعليمياً مقنناً مبنياً على الـ«قياس الواحد للجميع»، ويعاني «حشواً زائداً» في المناهج الدراسية، نظراً لكثرة المواد النظرية التي لا تعترف بخصوصية المواهب الفردية التي قد يبدع فيها الطلبة، ولا مهارات ومتطلبات سوق العمل، ما جعل التعليم في حالة جمود منذ عقود عدة، وبالتالي غير قادر على مواكبة متطلبات سوق العمل ولا التوافق مع قدرات ومواهب جيل الـ«آي باد».

لقد أدى هذا الجمود التعليمي إلى عزوف الشباب عن الاستمرار في التعليم النظامي، والتوقف عند مرحلة ما، لأنهم اعتقدوا أن هذا التعليم لا يحقق رغباتهم وتطلعاتهم المستقبلية، بالإضافة إلى انفصال محتوى التعليم عن واقع الحياة العملية، وانعدام منظومة الإرشاد الأكاديمي والتوعية المهنية التي تساعدهم على اختيار المسار المناسب لميولهم وقدراتهم.

ففي الأصل أن كل إنسان منحه الله، سبحانه وتعالى، مزايا ومواهب فردية تخصه، تجعله موهوباً ومتميزاً في مجال ما، ومن هنا يأتي دور الاسرة والمؤسسة التعليمية في اكتشاف تلك المواهب وتنميتها وصقلها، وعليه نجد أن التعليم النمطي المقصور على الجانب الاكاديمي والمحصور فقط في العلوم والمعارف الاساسية، لا يملك الآليات القادرة على اكتشاف مواهب الطلبة في غير الدراسة الأكاديمية، في حين أن نظام التعليم المرتبط بالجوانب التطبيقية يوفر مدى أوسع من الخبرات، ويفتح مدارك الطلبة، وبالتالي تبرز جوانب التميز والموهبة.

لذا، فإن الموهبة ليست مقصورة على فئة قليلة من الطلبة ذوي الأداء والتفوق الأكاديمي، الذين يطلق عليهم «فئة الموهوبين» فحسب، بل يجب أن تمتد إلى أكبر عدد من الطلبة باكتشاف موهبة كل منهم على حدة، ويمكن تنفيذ هذا الأمر من خلال تعزيزمناهج التعليم بالمحتوى التطبيقي والمهني والتقني، مع استخدام التقنيات الحديثة من برامج المحاكاة وغيرها، التي أصبحت توفر بيئة جاذبة للطلبة، تجعلهم يكتشفون مواهبهم، ويستخدمون قدراتهم لتتناغم مع المسارات المهنية التي يتم من خلالها صقل المواهب الفردية عبر المشروعات التقنية والتطبيقات العملية، ما يثير شغف الطالب في التعلم، من خلال ربط المعرفة النظرية بالجانب التطبيقي، وهو الأمر الذي يضمن تحقيق المخرجات التعليمية المطلوبة في سوق العمل.

وبنظرة متأنية في الواقع، نجد أن كثيراً من نوابغ هذا العصر ومخترعي التقنيات الحديثة هم أنفسهم لم يكملوا مشوارهم الدراسي في المؤسسات التعليمية النظامية، كونها كانت أكاديمية نمطية لدرجة زائدة على الحد، ما جعل هؤلاء يخلقون بيئة خاصة بهم، ويعملون في اطار مختلف يتوافق مع ميولهم ومواهبهم، وبالتالي تميزوا وتفوقوا في مجالاتهم المبدعة، وبناء على ذلك، فإننا مطالبون بإنشاء نظام تعليمي يعمل على صناعة الموهبة، واكتشاف المواهب المبدعة في المجالات كافة، من خلال عمل مؤسسي ممنهج بطرق علمية يقوم على تنمية تلك المواهب وصقلها، لنصل الى المخرجات البشرية التي تلبي متطلبات النهضة والتقدم في مناحي الحياة كافة.

وما أحوجنا في دولة الإمارات العربية المتحدة لاكتشاف المواهب الوطنية، وتنمية روح الإبداع والابتكار لدى الناشئة، وصناعتها منهجياً، لتسهم بشكل مباشر في التنمية الشاملة، وبناء مجتمع الاقتصاد المعرفي، إذ إن الواقع التنافسي في عالم اليوم لا يحتمل هدر الطاقات البشرية، خصوصاً في مجتمع دولة الإمارات الذي يشكل كل عنصر مواطن فيه ثروة بشرية لا تقدر بثمن.

Abdullatif.alshamsi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر