في الحدث

تحرير.. تحرير.. يا خواجة

خالد محمود

لا أخفي بهجتي، كمصري، وعربي، وشرق أوسطي، بالتقليد المنتشر الآن، بأن كل مسؤول أوروبي يزور مصر حالياً، يطلب أن ينزل في جولة ليزور ميدان التحرير، ليتفرج على موقع ومعالم ثورة 25 يناير. فمنذ فترة فعلها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وفعلتها بعده ممثلة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون، وأخيراً كرر المشهد نفسه وزير الخارجية الألماني غيدو فيستر فيلله.

فبالتأكيد لا تخفى على القارئ، الصورة النمطية المزورة التي اعتاد الغرب أن يرانا بها سنين طويلة، بأننا قمعيون، مقموعون، جهلة، متخلفون، لا نعرف كيف نتعامل مع المدنية، نضرب النساء، ونسيء معاملة الأطفال. كذلك شاهدنا، بأحاسيس لا تخلو من شعور بالإهانة، «خواجات» يطلبون أثناء زياراتهم بلادنا وقرانا، في صيغة استشراقية، أن يلتقطوا لهم صوراً وهم يركبون الإبل والحمير، يذكروننا بفيلم «لورانس العرب»، أو يتعمدون تصدير احساس مفتعل لنا بأننا دون الكائنات. ها هي القصة انتهت، بل تقريباً انعكست الصورة، فشعوب الشرق العربي خرجت من عزلتها غير المنطقية، وثارت بما يتجاوز أكثر شعوب العالم عزة، والمرأة الشرقية التي لم يكن لها مكان في مخيلة الرسام الغربي، سوى المشربية والحرملك، تتقدم الآن التظاهرة السياسية مدثرة بعلم بلادها، والشاب العربي الذي كانت اللقطة الأبرز له جبال قندهار ومعتقل غوانتانامو، أصبح ناشطاً سلمياً، يهتف للدستور والقانون والحريات في ميادين أوطانه.

في ميدان التحرير، قبيل تنحي حسني مبارك، وأثناءه، كنت واحداً من الجموع التي ضمها الميدان، غير مصدق أن ما يدور حولي «علم وليس حلماً». كنت لا أجد وقتاً للتنقل بين حلقة وأخرى، بين خيمة فنية وأخرى، هذه تعرض رسوماً للأطفال، وتلك تقدم مسرحاً لصمويل بيكت، هنا ندوة لشاعر، وتلك جماعة إنشاد صوفي، هنا قداس مسيحي، وهناك ترانيم نقشبندية. لم يكن ما يبهرني في المشهد قوة الاحتجاج السياسي الخرافية، وقدرة الشباب على تحرير قلب القاهرة، الذي كان البوليس السياسي يحكمه بالحديد والنار، فحسب، بل وأيضاً قدرة هذا الشباب على تقديم هذا الاحتجاج في أرقى صورة، ونجاحهم في تفجير أجمل ما فينا إبداعاً وسلوكاً. لم يحولوا - أي هذا الشباب الثوري الرائع - الميدان إلى ساحة سياسية شبيهة بباريس في الثورة الفرنسية ،1789 بل أخرجوا ذلك في لوحة تجعل منه خليطاً من «هايد بارك»، و«فينيسيا».

لقد أحدثت ثورة 25 يناير تغيرات لا آخر لتوابعها، وعندما يأتي الغربي إلى بلداننا، ليزور معاقل نضالاتنا الديمقراطية، فهذا يعني أن حاضرنا ومستقبلنا، أصبح أكثر أهمية من ماضينا المتحفي، وأننا لم نعد بحاجة إلى دروس خصوصية في الديمقراطية من أحد، بل العكس، فإننا نحن الذين نتجه قريباً إلى منصة تدريس الديمقراطية، يشهد بذلك ليس فقط هذه الزيارات، بل إجماع محللين سياسيين عديدين على أن انتفاضة «ويسكونسن» الجارية حالياً في أميركا هي استلهام للثورتين المصرية والتونسية. على أية حال لانزال في أول الطريق، والشرق الأوسط الجديد الذي كان يطنطن به، بلا تبصر، الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، فعلاً قادم، ولكنه ليس ذاك الذي تخيله على شاكلة غزوه للعراق، وإنما شرق حر جديد متقدم، كما يريده أهله وأصحابه.

كان الزعيم الصيني شواين لاين، يكرر دائماً في السبعينات «من المبكر جداً التنبؤ بآخر آثار الثورة الفرنسية». نحن هنا نقول الأمر نفسه، من الصعب جداً معرفة تداعيات «ربيع براغ» العربي الذي انطلق، لكن يكفي أجيالنا المهزومة متعة أنها عاشت لترى الشاب القاهري، وهو يبيع الهدايا للسياح، بدلاً من أن يقول لهم «متحف.. هرم.. يا خواجة»، يقول «تحرير.. تحرير.. تحرير»، يكفيها حتى على الأقل أن تتخيل ذلك.

 alayak2005@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر