5 دقائق

الفوضى الخلاقة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لا أعرف أحداً من البشر لا يتعاطف مع المسحوقين من الشعوب، لاسيما مع إخواننا بل أساتذتنا وأساتذة الدنيا المصريين الذين طحنهم الدهر بكَلْكَلِه، وعضهم الفقر بنابه، وهم الذين كانوا أسبق الأمم حضارةً، وأكثرها عراقة، وأوسعها معرفة بعلوم الدنيا والدين، فهم أهل الأزهر الألفي، وجامعة القاهرة المئوية، وأول من نشر الثقافة العربية الحديثة، وحركات التحرر في الوطن العربي.

هذا الشعب الذي يخرج هذه الأيام عن بَكرة أبيه ليعلن أنه لم يعد يقبل ما حكاه الله عن حاكمهم الأول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، ولا قوله {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرشَادِ}، يخرج ليقول: إنه ليس ذلك الشعب الذي استُخِف فأطاع، فهو اليوم يملك الإرادة بنفسه، ويقول ما يشاء بلسانه، .. هذا الشعب الذي وصى به نبي الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً». نعم هو الشعب الذي يقال فيه الكثير من المكارم، لا تتسع له هذه المساحة المحددة.

فما باله يعكر صفو هذه المكارم بتلك الفوضى الخلاقة التي أزهقت الأرواح البريئة، وروعت النساء في خدورهن، وانتهكت حرمات البيوت واستباحت الأموال والدماء؟! أليس في أولئك الذين أحدثوا مثل هذه الفواقر، والدواهي الأكابر، شعور بالإنسانية والوطنية إن لم يكن لهم حس إيماني، ووازع قرآني، فما لهم لا يَرعَوون، ولا لدنياهم يصلحون، ولا لمجتمعهم ينصحون؟! ألا يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»؟ فما هذه الدنيا التي يتعاركون من أجلها، وهم يفنون وهي تبقى؟! أليسوا ينشدون الإصلاح، ويتباهون بحماية الأرواح والممتلكات؟ فأين هذا مما نرى ونسمع من ذلك الخراب للأوطان والإنسان؟ إن الديمقراطية في الحكم تعني التداول السلمي للسلطة، وقبول الرأي الآخر، والتنافس من أجل مصلحة الإنسان وعمارة الأوطان، وكل ذلك مما جاء به الإسلام الذي يرشد الحكم بين الناس على أساس حماية الدين وسياسة الناس به، وعمارة الأرض بمقتضى شرعه، وهو الحال الذي كان عليه الرعيل الأول من هذه الأمة الخيرة، الذين أقاموا صرح الدولة الإسلامية بالعدل فضرب الأمن بجِرانه، فلماذا تَنكّب الناس هذه الفضائل، فذهبوا يتناحرون على هذه الدنيا التي هي متاع الغرور؟! فكم حكم مصر من الفراعنة والملوك والأكابر! لقد ذهبوا وتركوا آثاراً يذكرون بها، فمنهم من يذكر بالخير فيُحتذى، ومنهم من يذكر بالشر فيجتنب، أفلا يتعظ الحاضرون بالغابرين، ويتركون لهم لسان صدق في الآخِرين، يذكرون بها فيترحم عليهم، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ، فإن لم يريدوا ذلك فليحذروا من مغبة القدوم على الله وفي أعناقهم الدماء والأرواح والأموال، وقال «ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه؛ فكه عدله، أو غله جوره».نعم قد يقول قائل: إن الخنوع للظلم والطغيان إلقاء للنفس للتهلكة، كما قال براقة الهمداني:

متى تجمعِ القلب الذكي وصارما ... وأنفاً حميا تجتنبْك المظالمُ

فأقول: نعم، ولكن بالرفق واللين، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، أفلا تعقلون؟!

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر