إدانة بصرية

ربما كانت اللوحة التشكيلية الحديثة هي الأقل حضوراً في حمل المضامين الإنسانية اعتبارات كثيرة، منها أن قراءة اللون صعبة، وأحياناً غامضة، ومنها أن التأويل يكاد يكون هو الأهم في رسم العلاقة بين الفنان من جهة، والمتلقي من الجهة الأخرى.

قبل أيام كنت في محترف فنانة على وشك الإعلان عن معرض جديد لها، ورأيت لوحات عدة أكدت لي أن كل تجربة لابد لها من تحفز يقظ لكي تنتقل من موقع إلى آخر، ومن قراءة اللون إلى استقرار كتلة تحمل الخيال في مكوناتها، لكنها في الوقت ذاته لا تبتعد عن الواقع بما فيه من تمثلات بيّنة وصارخة، تؤكد حضور الموت ولا تنفي خصائصه المتوثبة.

نساء، شهيدات، أرامل، لطيمات، ومعنفات، يشهقن في ظل لوحة ربما هي في قطاع غزة أو العراق أو لبنان أو حتى في العالم كله، لكنهن ماثلات وبملامح تتكلم وتجعل المعنى يفيض بتأثيرات قد لا تكون موازية للواقع، لكنها تؤشر نحو أدوات الخراب وغياب الأمن الآمن، وتؤكد ضآلة الحب والعدل والضمير، وأحياناً مكارم الأخلاق، وتحاول جاهدة نقض ثقافة الدم المهدور بلا سبب، عبر خصائص اللون الأحمر ومن خلال اللعب في مكوناته وخلخلة كل معانيه في المخيال التشكيلي، وفي الوعي الجمعي الذي يدرك قوة معناه بمعزل عن إدراكه قوة المعنى الراسب في بقية الألوان الأخرى.

ربما كانت المعارض الفنية التي تتجاسر على فعل الإدانة قليلة، وذلك بسبب الخوف من السقوط أو الانزلاق في الانطباعية أو حتى الفوتوغرافية، غير أن هذا المعرض المقترح تسميته بـ«الشاهدات»، يلفت الانتباه ومنذ الوهلة الأولى، حين يدرك المتأمل أو المتلقي اختفاء اللون الأبيض ــ ربما لأنه يستريح كثيراً ــ وطغيان جملة من الألوان الداكنة التي تؤكد سيادة الأحمر وصدمة الأسود بحزنه وانكساره وهو يحمل عبء المرأة عبر ظلال ربما تكون غير عابئة بالرجل وأدواره المحددة، ولكنها تقول إنه السبب الأول والمباشر في القتل والتنكيل، وفي المعاناة وكذلك القهر الذي يحدث لها.

ولأن الفرشاة أحاسيس تتحرك وتتجاسر على الرسم، نطل على لوحات تمعن في رسم العالم، وأخرى تعيد النظر في ما رسم، طارحة أكثر من مقترح لرسمه مرة ثانية وثالثة، بلا ضحايا وبلا قتلة، وبلا فئات مهشمة، تاركة لنا أن نفهم كيف يختفي الجسد ويبقى حزنه؟ وكيف تتكلم الحرية وتصرخ حين تتفجر دماؤهن بين الرؤية والرؤيا ليتضح بعدها ما هو شكل الإدانة التي تدين الصراع الإنساني الممعن في إبادة الحياة بمهارة دموية، كما تدين الصراع المتفنن في الضرب المبرح لزوجة من دموع لا حول لها تتكوم ضعيفة في عتمة اللوحة.

يقال إن «الألسن خدام القرائح»، ولكن اللوحة أيضاً تظهر موحية وموازية للسان، وتكاد تقارب المحسوس، ويمكن أن تخدم القرائح من دون أن تسقط في التشخيص أو التجسيد البدائي للصور، خصوصاً إذا تركت نفسها في ذهنية اللون، وتبنت موقفاً مشحوناً بالانفعالات والعواطف، وبعدها سيكون من الخطأ أن ننكر حقها، إن تفوقت على الخط والنطق، وقالت الشكل البصري للكلمات وعبرت عن دوخلنا.

zeyad_alanani@yahoo.com

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة