كظم الغيظ

ورد في الحديث: «إن الغضب جمرة تُوقد في جوف ابن آدم، ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض»، هكذا روى الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، فعلى ماذا يدل هذا؟ إنه من أوضح الدلائل على أن الغضب لا يأتي بخير، بل هو شر محض؛ لأن المرء يخرج عن زمام العقل إلى انفلات اتباع الشيطان والهوى، فيسترسل مع غضبه حتى يصل إلى نتائج سيئة، سرعان ما يندم عليها، ولكن لات حين مندم، فلعله يظل في أثر ذلك الندم بقية حياته، وكان بإمكانه أن لا يصل إلى هذا الحال لو أنه عقل وكبح زمام غضبه، وهذا ما أشار إليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فقد أرشد الغاضب إلى أن لا يستمرئ غضبه، بل يعالجه بما يذهب غيظه ليسلم من شره، وذلك بالجلوس إلى الأرض التي تكون منها، ويتذكر مصيره إليها، ولتبعث إليه شيئاً من جاذبيتها لتمتص غضبه، ويهدأ روعه، وقد ورد في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع»، كما أخرجه أبو داود من حديث أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، فهل يتذكر الغاضب هذا العلاج النافع، ليكون مستناً بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك ليكون من الذين نالوا مرتبة عالية عند الله تعالى؛ إذ أثنى على الكاظمين الغيظ ثناءً لم يكن لأحد غيرهم، حيث قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبكُمْ وَجَنةٍ عَرْضُهَا السمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدتْ لِلْمُتقِينَ. الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السراءِ وَالضراءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ الناسِ وَاللهُ يُحِب الْمُحْسِنِينَ} فجعلهم من أهل التقوى الذين أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لما كانوا عليه من الخشية لله والوقوف عند حدوده، ومراقبته في السر والعلن، وتقديم مراده على مراد أنفسهم، وهو ما بينه الحديث المروي عن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، رضي الله تعالى عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء»، كما أخرجه الترمذي وغيره، وذلك ما كان يندب إليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، أمته، فقد جاء إليه رجل يسأله أن يوصيه فلم تزد وصيته، صلى الله عليه وسلم، على قوله: «لا تغضب»، فردد مراراً، قال: «لا تغضب»، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه؛ لأنه إن كان يملك نفسه عند الغضب فإنه يكون وقافاً عند حدود الله تعالى فلا يقع في مناهيه، وهذا هو الكمال في الرجال، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الشديد بالصرعة»، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، كما أخرجه البخاري ومسلم، وهنا يكون التمايز بين الرجال في المواقف، لذلك كله يتعين على المسلم أن يترفع عن حظوظ النفس الآنية التي تأمر بالسوء، وتقود إلى المهالك، فما فائدة تشف للحظة يودي بنفس بريئة، أو هتك عرض، أو إتلاف مال، أو تطليق امرأة، أو غير ذلك من المنكرات بل الموبقات، التي عاقبتها سيئة للفرد والجماعة.


كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي

تويتر