نقطة حبر

الصورة الكاملة

روت أسطورة صينية قديمة قصة تستحق التوقف عندها طويلاً، جاء فيها «في إحدى الغابات النائية عاش شيخ مع ابنه وجواد لهما، وفي يوم من الأيام أصبح الشيخ ليجد جواده قد فر واختفى بين الأحراش؛ فأقبل جيران الشيخ يعزونه في نكبته؛ فأذهلهم موقف الرجل الذي لم يبد عليه شيء من التأثر، وبادرهم قائلاً: من قال إنها نكبة؟ فانصرف القوم مندهشين.. وبعد أيام عاد الجواد برفقة خيول كثيرة؛ فأقبل القوم ثانية يباركون للشيخ حظه السعيد؛ فطالعهم وقد علت وجهه ابتسامة الواعي بتصاريف القدر وقال: ما أدراكم أنه حظ سعيد؟ فانصرف الجيران واجمين.. ولم تمض أيام حتى سقط ابن الشيخ من جواد بري كان يحاول ترويضه؛ فكسرت ساقه، فرجع الناس ثالثة يُبدون حزنهم لما أصاب الابن من سوء، فاستقبلهم الرجل هادئاً وقال: لم تظنون أن ضراً قد أصابه؟ فانصرف الناس صامتين.. ومضت أيام وإذا بالحرب تدق طبولها، ويُستدعى لها الشباب من كل القرى، وإذا بابن الشيخ يُعفى من خوض الحرب لعرج خلّفه كسر ساقه..».

إن كثيراً منا يرى الأحداث تتعاقب عليه ليل نهار، وحلقات القدر تتسلسل واحدة تلو الأخرى، ولا يدرك حكمتها وتتابعها.

وأظن أن الأسطورة لو استمرت على ذلك لرأينا عجباً من تصاريف القدر، ومن الناس قصار النظر، ومن حكمة الشيخ التي تفرز الأحداث، وتسلم بأن قدر الله لا يأتي إلا بخير، إنها الحكمة التي اهتدى إليها الشيخ أو أنها قد أهديت له، وقد عجنه الدهر بخطوبه؛ فصاغ منه جداراً واقياً أمام المواقف والأحداث.

إن الحكمة التي اكتسبها الشيخ في الأسطورة، تكمن فيما أظن في قدرة الإنسان على تمثل الماضي، وفهم الحاضر، واستشراف المستقبل، وذلك في كلٍ متكاملٍ، وبإدراك عين ترى الأشياء في جملتها، تتأمل الأمس، وتقلب فيه النظر؛ لتجمع أشتات الاعتبارات، وتؤلف مختلف النظرات، وتحلل بغربال العلم والتجربة؛ لتكتنه بذلك الغيب في عملية دؤوب لا تهدأ حتى تكتمل الوجوه، وتنجلي الحقيقة ناصعة، وحينها يُصنع الحكيم، وتصهر قريحته، وتصفو نفسه، ويتسع أفقه.

إن كثيراً منا يرى الأحداث تتعاقب عليه ليل نهار، وحلقات القدر تتسلسل واحدة تلو الأخرى، ولا يدرك حكمتها وتتابعها، ويقف الحكيم راسخاً ليرى الصورة كاملة؛ فيجمع تلك الحلقات ليصوغ منها سلسلة يزدان بها صدر البشرية، وهذا بين البشر قليل.

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية - جامعة الحصن

 

تويتر