هيمنة نقدية

أحمد السلامي

 
عندما نقرأ نماذج من الأعمال الشعرية العربية التي أنجزها شعراء التسعينات، نلحظ ميل أغلب شعراء هذا الجيل إلى التعبير عن خياراتهم الجمالية بروح شبه جماعية، تلغي الخصوصية الفردية، وتعمل على تحييد البيئة والمكان، لتكشف عن ارتهان لمقاييس تأتي من خارج النص أثناء لحظة كتابته، تعمل على توجيهه وتحد من استثماره للإمكانات التي تتيحها قصيدة النثر للشاعر.

 

هذه المقاييس جعلت الشعراء يشكلون بإنتاجهم ما يشبه الكتلة التي يتقارب اشتغالها الشعري من حيث الرؤية والتعامل مع اللغة، ومدى استجابة نصوصهم للتنظير الذي حاول أن يحصر قصيدة النثر منذ أواخر الثمانينات في زاوية تكرس توصيفات نقدية عمومية، تعالج المضامين وتتجاهل التقنيات، مثل الحديث عن الاعتناء بالهامش والتفاصيل الشخصية اليومية والبحث عن الشعر خارج القضايا الكبرى والكليات وبعيداً عن جماليات اللغة ومجازاتها. هكذا وقع البعض في مطب التشابه مع غيره بفعل الانسياق وراء مقولات لاتزال تهيمن على الساحة الشعرية في سياق محاولة تأطير شكل شعري يتميز برفضه القولبة والتنميط.

 

وبسبب تحررها من القواعد وانفتاح أفقها المستقبلي على تجاوز التنظير المسبق، دفعت قصيدة النثر بعض الشعراء والنقاد إلى الاشتراك في حالة من القلق والعجز عن مقاربة القصيدة الجديدة دون التدخل في توجيه مسارها. هذه الحالة أنتجت في ما بعد مقولات نقدية وتراكماً شعرياً يبرر التشابه والركود بالحديث عن انتهاء زمن الشاعر الفرد وولادة زمن النص، وأحياناً يبرر تراجع الشعر بطغيان الرواية وانتشار ثقافة الصورة، مع ان الجمهور العربي يعيش في زمن ما قبل الطباعة، قياساً بضآلة مبيعات الكتاب في المنطقة. 

 

افتقاد قصيدة النثر لجزء من الحماس الذي رافق ولادتها يعتبر أمراً طبيعياً بعد أن تجاوزت معركة الاعتراف بمشروعية انتمائها لخريطة أجناس الأدب العربي. لكنها اليوم بحاجة لحماس إضافي يمنحها التحرر من عصابة النقاد الذين حاولوا اختطافها ومحاصرتها بتحديد مضمونها ولغتها، والتعاطي معها بمنهجية غير واعية تسعى إلى تقنينها بوصفها غير منفصلة عن ميراث الشعر العربي المسيج بقواعد شكلية وظيفتها الحفاظ على الصنعة، ويبدو أن الوقت قد حان للكشف عن جناية النقاد العرب على قصيدة النثر التي أوشكت أن تتحول في كتبهم ومداخلاتهم إلى صنعة ذات مواصفات نهائية.

 

هناك شعراء نجوا من التشابه والاجترار وأسسوا تجاربهم التي لا تشبه إلا ذاتها، وبالتالي لا يمكن الحديث عن قصيدة نثر عربية واحدة، لكن المراكز التي تستأثر بالمنابر الإعلامية والثقافية المؤثرة في المشرق العربي لا تلتفت إلى حركة الشعر في المغرب وفي بقية دول الأطراف.

 
هناك أيضاً تجارب تحتفي باللغة والمجاز وتستضيف البعد المعرفي في بناء القصيدة، الأمر الذي يفرض على الناقد عدم محاكمة نصوصها وفق سياق نقدي يجعل همّه الأول التنقيب عن التفاصيل اليومية والبحث عن الصورة الشعرية في النص على غرار البحث عن «بيت القصيد» في الشعر العمودي. وبإزاء هذا التنوع الذي يتمرد على النقد المهيمن يمكننا التساؤل: إلى أي مقياس جمالي يتكئ البعض ليحدد مضموناً أحادياً لشعرية النثر؟ ومتى وضع الناقد عربته قبل حصان النص؟   


 slamy77@gmail.com  

تويتر