علم العقاب

د. أحمد الإمام

 

 دأبت غالبية الحضارات السالفة، على اعتبار العقاب وسيلة للانتقام من المنحرف والتنكيل به؛ وتم ابتداع أساليب متنوعة للتعذيب كالصـَّلب، فصل الأجزاء بالشد، أو الحرق حياً في حق السَّحـَرة، والنفي في جزر مقطوعة عن العالم، والأشغال الشاقة المؤبدة والإعدام بطرق مختلفة، حيث عرفت فرنسا اختراع المقصلة، وهلم جرا من العقوبات التي كانت تتسم بالقساوة.

 

انحصرت كل الممارسات العقابية في إجبار المتهم على الاعتراف بما يُنسب إليه، واعتبار المنحرف مسؤولاً كامل الإرادة والإصرار على أفعاله المتجاوزة للحق العام، بل كان التصور السائد آنذاك أنه يحمل في طياته الشر، وكل معاني الانحطاط الخلقي والسلوكي؛ وأن نفسه خبيثة شيطانية يجب اجتثاثها من المجتمع، حيث ركزت القوانين المطبقة على معاقبة ذاتية الفرد ومَحـْقـِها لاقتلاع جذور الانحراف. كان المتهم يعاقـَب على نواياه، وربما زُجَّ به في السجن لتصرفات خاطئة لا خطورة فيها. تطورت التشريعات والقوانين وخصوصاً القانون الجنائي لضبط السلامة المجتمعية، وتقنين الحقوق والالتزامات العلائقية، وأنشئت مؤسسة الشرطة للضبط الأمني، وكذا النيابة العامة للسهر على حسن احترام وتطبيق القانون والقضاء بمراحله الابتدائية، والاستئناف، والنقض لضمان العدالة والاستقرار. كانت التشريعات الإسلامية رائدة في وضع منهجية العدالة العقابية، حيث تم طرح مبدأ تفريد العقوبات بحسب وضعية الفرد، فلا يعاقب الراشد كالطفل ولا المحصن كغير المحصن ولا المرأة كالرجل، وبقدر ما شرعت عقوبات صارمة، إلا أن الإجراءات أصبحت دقيقة وأصبحت القاعدة درء العقوبة بالشبهة، أي لا يجوز تنفيذ العقوبة في أقل حالات الريبة، وكل قصور في التيقن من وقوع الانحراف ينسحب لفائدة المتهم، بل حتى في حال ثبوت التجاوزات، فالمبدأ أن العقوبة تقع لمنع الفعل المشين وليس الاعتداء على شخص المذنب.

 

انطلاقة التحول في التشريعات الجنائية أعلنت بالاهتمام بدراسة تفاصيل الانتهاكات والسعي لاحتوائها بكل التقنيات المستجدة. برز علم العقاب كعلم حديث متخصص للتوفيق بين مختلف مكونات وضوابط المؤسسات الردعية والأمنية والعقابية، وكذا تمكين المشرع من اتخاذ القرارات الناجعة لتحديث بنود القانون الجنائي وإجراءاته، وذلك بتحقيق بحوث ميدانية على شخصية المنحرف وسلوكياته بكل أنواعها، لتحقيق توازن في القوانين المقترحة. من بين أهم القواعد الأساسية لعلم العقاب، الوقاية من الجريمة وذلك بمنع حدوثها أو التقليل منها والحد من تكرارها، وكذا الردع العام أي جعل أكبر عدد من أفراد المجتمع بكل شرائحه يأخذون العبرة ولا يفكرون يوماً بارتكاب أي انحراف؛ أمّا الردع الخاص فالهدف منه ترهيب الجاني لدرجة لا يجرؤ فيها بالعودة لأي مخالفة.

 

 يسعى علم العقاب حالياً لإنشاء عقوبات إصلاحية وتقويمية، وذلك بالاستفادة من سلطة الإشراف على المدان أثناء فترة سجنه بإعادة تربيته على القيم المجتمعية وإكسابه مكونات شخصية صالحة، كما أن برامج العقوبات الإدماجية ترتكز على التأهيل أو إعادة التأهيل بواسطة التكوين المهني لاكتساب حرفة معينة والتعليم وامتلاك المهارات لممارسة حياة مجتمعية طبيعية بعد انقضاء مدة العقوبة. أحدث أنواع العقوبات هي تلك البديلة التي تركز على تغيير سلوكيات الفرد بالتأثير في مكوناته الذهنية والنفسية بشكل فعال وقوي، وخير مثال على ذلك إلزام سائقي السيارات المتهورين بالعمل في قسم المستعجلات والمشاركة في استقبال المصابين في حوادث السير لجعلهم يدركون بفظاعة المعايشة مخاطر تصرفاتهم اللامسؤولة. لم يعد الهدف من العقوبة إقصاء كل المخطئين، بل السعي لإصلاح أمرهم وكسب المعركة في مواجهة الانحراف باسترجاع أكبر عدد ممكن من الشاردين عن توازنهم النفسي لضمهم إلى وحدة الصف وإدماجهم في الحياة العامة، والتعامل مع الفئات المعادية لسلامة المجتمع بما يناسب سلوكياتهم الإجرامية، من دون الوقوع في استدراجاتهم بدفع النظام في مستنقعات عدم الاستقرار.
تويتر