نعمة النسيان

د. أحمد الإمام


يعاني الكثيرون من اضطرابات التذكّر وصعوبات مهنية ودراسية وأخرى معيشية بسبب النسيان، فيسعون لإيجاد الحلول لمعالجة هذه الاضطرابات وقد سبق أن خصصنا مجموعة من الحلقات الإذاعية لهذا الهدف؛ بينما يشتكي آخرون من عمل ذاكرتهم بشكل مفرط ويسترجعون أبعد الذكريات وكذا أحدثها بكل تفاصيلها ودقائقها، وخصوصاً كل مكوناتها الحسية وخصوصاً الذكريات المأساوية؛

 

فيصبحون يبحثون عن الحل لنسيان هذه الأزمات، بل يتمنى بعضهم لو يتمكن من محو الأجزاء المزعجة من ماضيه في ذاكرته. يتذكر المرء التجارب السلبية التي عاشها مع أهله ويسترجع خيبات أمله في محيطه الأسري، وقد يغوص في الألم من صدماته العلائقية أو ببيئته المدرسية أو المهنية أو سلوكياته الشخصية؛

 

تتكالب عليه كل الصور القاهرة والعبارات الجارحة والتصرفات المشينة التي تهيمن على يقظته ومناماته، فيشعر المرء بتحفز ذهني مستمر ويقظة مفرطة وحذر دائم وكأنه يستبق تعرّضه للهجوم أو لمواجهة متوقعة من كل ما حوله، ليجد نفسه مرهقاً نفسياً، متعباً عقلياً وفترات نومه مضطربة.

 

بقدر ما يشعر المعني بأن ذاكرته قوية ونشيطة في السلبيات خصوصاً، بالقدر نفسه يزداد توتره وتكثر نزاعاته مع نفسه ويـُسقط كل تناقضاته على محيطه،  فيتيه في إيجاد سبيله إلى قراره؛ لا يدري كيف يفك تشابيك أحاسيسه الماضية بواقعه الحاضر. يصبح النسيان في هذه الحالة نعمة يرجوها الذي ترميه مكنونات عقله في جحيم سراديب اللاشعور الذي تراكمت فيه سلبياته المكتسبة والتي قد تزلزل كيانه، فلا يدري ما يغير شخصيته ولا ما يدفعه إلى تصرفات يعجز عن توجيهها. 

 

يلجأ البعض إلى إلقاء اللائمة على الآخرين الذين تسببوا في إيذائهم، ولكنهم في الوقت نفسه يظلون محافظين في تلابيب ذاتهم على كل السلبيات التي خزنوها زمناً طويلاً في أعماق كينونتهم حتى امتزجت بمكونات شخصيتهم، فيشتكي الفرد لفظياً من سلوكيات هو نفسه محافظ عليها، كالشخص الذي تعرض للعنف، أو الذي تعرض لخيانة أو أي نوع من الصدمات المعيشية فيكرر الاختلالات نفسها التي يشتكي منها. ينبغي على كل من يسعى للنسيان أن يبدأ برحلة النزول إلى أعماقه ليطهرها من كل الترسبات، ولا يمكنه ذلك إلا إذا تعرف إلى طبيعة هذه التحجرات والطبقات التي تراكمت على مر السنين؛
قد يتفاجأ بالإطلاع على ما لا يرضيه أو ما قد يجرح عزته وكرامته، ولكن هذه المكاشفة الشفافة مع الذات ضرورية للتعرف إلى خبايا اللاشعور لفهمها دون تفهمها وللتمكن من تفريغ محتوياتها المؤلمة واستعمال عناصرها كخبرة واقعية عن الحياة لبناء الذات على أسس واقعية مقبلة على الحاضر ومستشرفة للمستقبل بالاعتماد على الطاقة الذاتية وقبول ما حدث دون تبريره وتفادي التصلب الذهني والعاطفي واعتبار أن الإنسان خلق للحياة الكريمة والسعي لأن يكون ظاهرياً ما هو في حقيقة باطنه، حتى يتمكن من تحقيق التوافق والتناغم الذاتي الذي ليس إلاّ شفافية النفس ومصداقية الروح. 

 

الذي يعجزعن إلغاء آلام ذكرياته فلأنه محافظ على ماضيه الذي تعوّد عليه، فهو يعتبر آلامه جزءاً منه وربما يرفض أن يتخلى عنها، وكأنه يتلذذ بعذابه بها أو أنه يجد هويته فيها، خوفاً من إقباله على هناء مجهول. تقنية التداعي الفكري والتفريغ التطهيري أساسية للكشف عن كل التفاصيل السلبية، وكتابتها أو رسمها ثم التحاور عنها مع متخصص مُلمٍ بهذه التقنيات، للتمكن من استرجاع الثقة بالذات وإعادة بناء التقدير الذاتي دون تظاهر أو مخادعة نفسية أو مغالطة ذهنية وتفريغ الأعباء والتطهر من الأدران العقلية، لاستنشاق نسائم الحرية والحياة التي حباها الله الخلق جميعاً.

تويتر