الإعلام الهادف

د. أحمد الإمام

بعدما كان الإعلام حكراً على الجهات الرسمية ووسيلة تأطير وتوجيه المجتمعات وفق سياسات السلطة، أصبح مجالاً مفتوحاً للتعبير الحر عن مختلف الاهتمامات والمصالح؛ إلا أن الضوابط تلاشت تدريجياً لتختزل في القدرة على التمويل بالأساس، وتتحول السلطة إلى مجرد مراقب محايد تاركاً صلاحياته السابقة بين يدي المستهلك، الذي يمكنه أن يدعم باختياره الفردي استمرارية أو تراجع الكثير من المشروعات الإعلامية، السمعية والبصرية وكذلك المقروءة؛ ناهيك عن تلك الوسائط المتعددة للتواصل عبر شبكة الإنترنت.

تسعى بعض هذه الوسائل الإعلامية لاستقطاب المستمع أو المشاهد أو القارئ بالتفنن في الإثارة أو الإغراء إن لم نقل الإغواء، أو الاستدراج في مزالق وأوهام الإثراء السهل والسريع، أو عبر إثارة غريزة الجدل والنزاع تحت غطاء المحاورة الحرة؛ والأمثلة متعددة وكثيرة لما يتم ابتداعه لجذب الجمهور، وذلك لضمان أكبر شريحة ممكنة من المجتمع للتوصل إلى إمكانية إقناع المعلنين الذين أصبحوا الممولين الأساسيين للكثيرين؛ أما من اختار سياسة التشفير فلا شك أنه يٌخضع مشروعه لحاجيات المشتركين الفعلية أو تلك المبتدعة للحفاظ عليهم.

أقدمت فرنسا أخيراً على خطوة جريئة بإلغاء كل أنواع الإعلان والدعاية من وسائل الإعلام الرسمي بقرار رئاسي، ما اضطر الحكومة إلى ضخ مبالغ هائلة لتعويض المداخيل المفتقدة من الإعلانات؛ وكان القصد من هذا التوجه تحرير وسائل الإعلام الرسمية من هيمنة مصالح القطاع الخاص، وتمكين المواطن من حقه في الحصول على إعلام حر، مستقل وهادف.

مفارقة عجيبة أن يصبح الإعلام الرسمي في كثير من الدول المتقدمة، عنواناً للجودة والانفتاح وضمان المصداقية وحرية التعبير الجاد، بعدما كان وسيلة دعائية للمذاهب الفكرية السائدة؛ بينما تعددت الفضائيات والقنوات الإذاعية والصحف المنغلقة على نمطها الأحادي سواء في البرمجة أو الرسالة أو في كثير من الأمثلة انعدام الرؤية أو أي توجه هادف.

لا شك أن دور المؤسسات الرسمية هو ضمان حق المواطن في الحصول على ثقافة ارتقائية وتوعية حضارية، باحترام ضوابط الوحدة المجتمعية؛ ورفع مستوى المنافسة الإعلامية بإعطاء المثال الذي يحتذى به في جودة البرامج، والحفاظ على جماليات الذوق العام، وتطوير المفاهيم والتناغم الفكري والإبداعي؛ بتسليط الأضواء على مختلف مواطن الثراء المعرفي لدى كل الشرائح.

عندما يتعود المستمع أو المشاهد أو القارئ على مستوى برامج تحترم عقله وتنمّي فكره وتغذي كيانه، يغدو محباً لذوقه السليم، قادراً على الاختيار، منزهاً نفسه عن تضييع وقته وطاقاته في ما لا يرجع عليه إلا بالضرر؛ كإدمان الكثيرين على القنوات والمواقع الابتزازية للمال والتفريغ الرخيص للغرائز المكبوتة؛ فالإحصائيات تشير إلى ارتفاع مهول للمبالغ المهدورة بالبلدان العربية في هذه المستنقعات المتكاثرة.

نطمح أن تتحد الجهود وتتكاثف الكفاءات المبدعة لينعم المواطن العربي بإعلام هادف يدفع عجلة التنمية المستدامة، ويرفع مستوى الوعي الحضاري لدى الشعوب العربية، فكل القادة السياسيين يعلمون أثر الإعلام في تحريك ردود الفعل لدى الشارع، وتأطير أنماط التفكير والسلوك العام؛ ولعل دبي الريادة تعطي إشارة الإنطلاقة في نهج البناء الحضاري.

تويتر