ظلال الأمكنة

ياسر الأحمد

 

 في المأثورات كان النبي يقول عن مكة:والله إنك لأحب مكان إلى قلبي،ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجت. ونجد بلالاً الحبشي يعاني من الحمى بعد الهجرة فيترنم بأبيات من الشعر مشتاقاً إلى مكة، رغم عذاباته فيها. فالغربة ترتبط بالبعد عن المكان بالدرجة الأولى.

كَمْ منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتى / وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ

 

هكذا يقول بيت الشعر المتداول، ودرويش يقول في قصيدة له

« قهوة تفتح شباكاً » نستطيع أن نجد رابطاً بين المكان وروائحه الخاصة، أو حتى نخترعها أن لم نجدها.

 

حين يسكن الإنسان بيتاً يبدأ بصنع ذكرياته،وصنع ألفته، وفي أمكنتنا الخاصة تنمو أحلامنا التي نسقيها بماء الطفولة،وأحلام اليقظة،ألا يحدث أن نتوقف عن قراءة مقطع شعري يتحدث عن مكان ما، لنبدأ بتهويم لذيذ خلف أمكنة الطفولة وغرفها،وحول الأفنية المنفردة ذات بيت شتائي .

 

بهذه الطريقة نحن نسرد أحلامنا وأمكنتنا أمام أنفسنا، نعرضها باعتبارها تجربة نحققها، وليس فكرة مجردة، وهذا ما يميّز الرواية حين تنطلق من مكانها الخاص والمحلي، لتصل إلى عالم الجميع ، نجيب محفوظ رسم مكانه الخاص والقاسي في قاهرة الثلاثينات والأربعينات ، وماركيز بدأ من مكانه الساحر والقذر في وقت واحد، وكلاهما وصل بذلك إلى اللحظة العالمية .

 

ترى هل كان شعراء الجاهلية يبكون الأطلال كلازمة شعرية ليس أكثر، أم أنهم كانوا عبر المرور على الأطلال يحاولون إعادة خلق ذكريات المكان ، لينطلقوا من ثم إلى اختراع  صورتهم الشعرية عن الحبيبة وجارات الحبيبة.

 

والمكان الأليف في زاوية من زواياه طريقة لصناعة الخيال، وصناعة الصورة عند السينمائيين و فناني التشكيل، ومن لا يذكر كيف أخذ يوسف شاهين مدينته / مكانه «الإسكندرية» في زمن طفولته ليصنع بعض أفلامه.

 

ولأن المكان هو الذاكرة يقول طفل فلسطيني لم يعرف حيفا « أريد أن أعود إلى حيفا».فسماعه لسرد الآخرين حوّل حيفا إلى جنة منتظرة.

 

لكن المكان ليس مرتبطاً بجمالياته فقط، فبعض الأمكنة تثير مشاعر وذاكرة بشعة.القبو قد يثير لدى البعض شعوراً عميقاً بالمجهول والظلام ، يشعر أحدنا أن للقبو مخلوقات خاصة نخيف بها الأطفال الصغار.

 

قد يرتبط القبو بالتعذيب،وبالحجر المغلقة،والأصوات الضائعة في الصمت،وقد يرتبط بالحياة المخزنة فيه،وبالمؤن الشتوية والدفء والصيف البارد.

 

لعل أهم ما يشد نظرنا إلى المكان في البداية هو تميّزه جمالياً بناءً، ومدى الإبداع في عمارته،وقدرته مكاناً على تمثل خصائص المدينة أو الثقافة.ولكن ماذا عن الكتل الأسمنتية التي يصفعنا بها «البناء الوظيفي» الذي يهتم بتحقيق وظائف الإيواء بمعزل عن المكان والعمارة رؤيةً.

 

لعلنا نستطيع تذكر«قصر الحمراء» في مواجهة البشاعة العمرانية / المكانية مكانا لا يزال بعد قرون من بنائه قادراً على إثارة ألفتنا ووجدنا وكل الحنين الساكن فينا .

 
ytah76@hotmail.com
تويتر