فريدة.. عراقٌ مضى

ياسر الأحمد

 
كان أحد أعمامي يجلس في فـــناء داره عصراً ليشرب الشاي، ويستمع إلى غناء المطربة العراقية سليمة مراد أو زهور حسين. لم يكن يفضل عليهما صوتاً مهما كان حين علم أن سليمة مراد من أصول يهودية، لبث واجماً لدقائق قبل أن يقول: لكنها سليمة باشا، كما لقبها العراقيون وقتها.


صورة سليمة مراد التي تتصدر الطبعة العربية من رواية «فريدة» للكاتب العراقي اليهودي نعيم قطان تشي تماماً بمدى حضور هذه الطائفة في تاريخ العراق حتى أواسط القرن الماضي. فسليمة مراد حازت على إعجاب عموم المستمعين في العراق، حتى إن أم كلثوم حين زارت بغداد في الثلاثينات استعارت أغنيتها الشهيرة «قلبك صخر جلمود ما حن عليّ» لتتواصل بها مع جمهورها العراقي.


تبدأ الرواية بجريمة قتل، على الرغم من أن الحب هو الحدث الأهم أو الوحيد تقريباً. القتل يأتي في سياق ما يسمى «بالفرهود» حين يتمرد العامة ويثيرون الشغب مطالبين بحقوقهم ولكن عبر «بلع» حقوق الآخرين، وهو حدث يتكرر في تاريخ العراق كثيراً. منذ أن سنّه الجنود الأتراك وقت الدولة العباسية.


تحدث جريمة القتل في بغداد / المدينة، وفيها يعيش الروائي ليقدم لنا تفاصيل صغيرة عن حياة العراقيين في تلك المرحلة، بتتبع لافت للتفاصيل وأسماء الأمكنة، ولعله كان سينقل لنا روائح المكان لو استطاع.


يحضر الصوت الداخلي المنولوج بشدة في أجزاء الرواية، فبطل الرواية سليم عبدالله حائرٌ بين حبه لفريدة وخوفه عليها، رغبتها الجارفة بالانتشار غنائياً.


فهي لا تتصور حياتها إلا مطربة رغم رفض محيطها لها.


تنجح فريدة في الغناء لكنها تخسـر الحب، وبالمحصلة يتغلب القتل على حبها الشخصي. فرجلها في السجن وعلى الرغم من سعيها لمساعدته، إلا أنه في النهاية سيهرب من العراق إلى فلسطين. ليعيش في فلسطين حنينه العراقي بعد أن حقق حنينه التلمودي على أشلاء أصحاب الأرض. في النهاية تتمزق الشــــخصية المركزية إلى قسمين: فريدة وحبيبها، فهو يهرب بعيداً عن المكان دون أن نعرف دوره المفترض في جريمة القتل، وهي تهرب داخل المكان لتسأل «ماذا لو كانت الحياة نفسها وهماً؟».

 

يبدو هذا كله نمطاً قابلاً للتعميم، مع مراعاة الفوارق بالطبع، هناك دائماً أقلية تندمج جزئياً في المجتمع، لكنها مع ذلك تخرج دائماً خارج السياق المؤثر لما يحدث. فالمجتمع ينظر إليها متلقيةً للحدث، حتى ولو كان هذا مجحفاً بحقها وحق مساهمتها الإيجابية في المجتمع.

 

أو كما يشير الروائي نفسه في روايته الأخرى (وداعاً بابل) «في العراق يكفي حضور مسلم واحد في مجلس ما كي تفرض لهجته نفسها على الجميع». هناك لهجة تخص اليهود العراقيين إذاً، وهذا التمايز اللغوي ينكسر بمجرد حضور الأكثرية. أيضاً لا تستعير الأكثرية مفردات الأقلية إلا تحت بند السخرية أو التفاخر أحياناً.

 

الأغرب أن كتباً في النحو العربي كُتبت بأقلام يهودية.. غريبٌ هذا الشرق. 
  
ytah76@hotmail.com  
تويتر