أبواب

ورطة الكتابة

محمد حسن المرزوقي

كنت أعتقد أنّ الكتابة هي أقل الأمور كلفة في الحياة، ولا أعني هنا الكتابة الإنشائية، التي يستطيع ممارستها أي طفل لم يتجاوز عامه العاشر، لكنها تلك الكتابة الإبداعية التي يتنفّسها المرء كما يتنفّس الهواء.

ولكنني اكتشفت، مذ بدأت الكتابة، أن ذلك ليس صحيحاً البتة، فإلى جانب الجهد الذي يبذله الكاتب والوقت الذي يهدره لاقتناص الأفكار، يضطر إلى تحمل سيل الشتائم التي تنهمر عليه بسبب سوء فهم أو سوء نية أو كليهما، وعليه، مع ذلك، أن يتعامل معها كحكّة في باطن قدمه أخبره الطبيب يوماً بأن لا علاج لها سوى التجاهل!

«لنكن واضحين من البداية، لا يوجد شيء اسمه كاتب، ثمة شخص ما، يبتكر ذات يوم كاتباً ويصبح خادماً له».

«أصعب ما في الحياة أن يختار المرء بين نفسه وبين كاتبه، لأنك سواء اخترتك أو اخترت كاتبك، فلن تعرف أبداً ما إذا كنت اخترت الخيار الصحيح أم الخاطئ!».

ولكن من هو الكاتب؟

يقول كارلوس ليسكانو في كتابه «الكاتب والآخر»، إن الشخص الذي تغويه شهوة الكتابة يبدأ، في لحظة ما، ببناء شخصية موازية له، تلك التي تكتب، وشيئاً فشيئاً تبسط هذه الشخصية نفوذها عليه، تسحقه حتى لا يعود له مكان! إذاً لنكن واضحين من البداية، لا يوجد شيء اسمه كاتب، ثمة شخص ما، يبتكر ذات يوم كاتباً ويصبح خادماً له. ومنذ تلك اللحظة يعيش كما لو كان اثنين. يصبح الشخص المُبتَكَر كاتباً عظيماً، بينما يقبع من يبتكره في الظل، ويغدو كل ما يفعله أو يقوله متعلقاً بالشخصيّة المبتكرة وليس بنفسه.

وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فالقارئ من جهة أخرى لا يعي الفروق الأساسية بين هاتين الشخصيتين، بين الشخص وكاتبه، أو الكاتب وخادمه، فيصبح من الصعب عليه الفصل بين العمل وصاحبه، ويتصور إذا قرأ عملاً ما لروائيّة ما، أنها تدون مذكراتها الشخصية!

من هنا تكمن الورطة في الكتابة، في هذه الشخصية الأخرى التي يبتكرها الشخص ذات غرور أو غباء ثم يتورّط فيها إلى الأبد، تماماً كما قد يتورّط شاب أو فتاة في ابن غير شرعيّ نتيجة علاقة عابرة؛ فالعلاقة قد تذهب والكتابة قد تتوقّف، ولكن هذه الشخصيّة المبتكرة ستظل حيّة تؤرّق الكاتب مثلما سيؤرق الابن غير الشرعي والديه!

الأمر شبيه، إلى حدٍ ما، بما فعله «فيكتور» بطل رواية «فرانكشتاين» عندما نجح في خلق وحش بشري، سيخرج - لاحقًا - عن سيطرته ليقتل ويدمر، إلى أن ينتهي به الأمر إلى قتل فيكتور نفسه.

ما أعرفه عن نفسي أنني في لحظة ما صنعت محمد المرزوقي الكاتب؛ ليقول أشياءً اعتقدت أنّها جميلة، لكنه خرج عن سيطرتي في منتصف الرحلة وبدأ يسبب لي الكثير من المتاعب. أنا إنسانٌ حقيقي، أذهب إلى عملي كل يوم (متأخراً قليلاً)، وأكره المخلوق الذي ابتكر نظام البصمة لمتابعة حضور وانصراف الموظفين (وأعتقد أن هناك مكاناً مخصصّاً له ولثقلاء الدم مثله في الجحيم)، وأحب الاستماع لأغانٍ روسيّة لا أفهم منها حرفاً واحداً وأنا أقود سيارتي، ولديَّ أصدقاء كثر يعتقدون أنني لعنة سقطت عليهم من السماء لذنب لا يعرفونه، لكن الكاتب ليس فيه شيء من هذا، الكاتب كائن من ورق يتأمّل الحياة ولا يعيشها، لكن محمد المرزوقي يعيش الحياة، ولا وقت لديه ليتأملها!

أدرك الآن أن أصعب ما في الحياة أن يختار المرء بين نفسه وبين كاتبه، لأنك سواء اخترتك أو اخترت كاتبك فلن تعرف أبداً ما إذا كنت اخترت الخيار الصحيح أم الخاطئ!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر