أبواب

الفتنة التي أبت أن تستيقظ

محمد حسن المرزوقي

ثمة أشياء بغيضة لا تستطيع نسيانها مهما حاولت، فبقدر ما تحاول دعكها من ذاكرتك بقدر ما تزداد إمعاناً في الالتصاق بها، ومهما كانت ذاكرتك رديئة ومثقوبة، تتسرب منها كل الذكريات، إلا أن هذه الأشياء تبقى أكبر من أن تنسل من ثقوب ذاكرتك الدقيقة!

ربما كان أبرز هذا النّمط من الأشياء هو ما يمسّ إنسانيتك، أو يهدد هويتك / وطنك / دينك. قد تنسى التفاصيل الصغيرة المحيطة بهذه الأشياء، لكن جوهرها يظلّ حياً تستدعيه الأحداث من فوق أرفف ذاكرتك المغبرّة!

ظهر تنظيم «داعش»، فاكتشفنا متأخرين أن «الفطنة» لا «الفتنة» هي التي كانت تغط في نوم عميق، أما الفتنة فقد أصابها المتاجرون بالدين بالأرق، فلم تعد تفلح معها الحبوب المنوّمة ولا الحقن المخدرة.


«لا يجب أن نكتفي بلعن الظلام، ولا يجب نكتفي بإشعال شمعة. لكي نخرج من هذا النفق المعتم، علينا أن نشعل الشمعة مرة، ونلعن الظلام ألف مرة».

ومن هذه الأشياء التي بدأت تلحّ عليّ بشدة، أخيراً، مع ظهور «داعش»، عبارة «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»، التي كان يتداولها رجال الدين على نطاق واسع في ما مضى، رغم أنها ليست سوى حديث ضعيف ينسب للرسول!

خيل إليّ يوم سمعتها أول مرة أن «الفتنة» كائن أسطوري كالعنقاء أو طائر الفينيق، يغط في نوم عميق منذ.. لا أعرف متى. وكنت كلما رددها أحدهم أمامي أهرش رأسي تعجباً من قدرة هذه الفتنة على الاستغراق في النوم هكذا، أمام كل ما كنت أظنه كفيلاً بإزعاجها في نومها، حتى تبيّن لي أنها تغط في بيات شتوي.. وصيفي كذلك!

فالإرهاب الذي غطى منطقتنا، في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، حتى غمرها بالدماء والجماجم والأشلاء، وأوصلنا إلى مرحلة من الاكتفاء الذاتي قمنا على إثرها بتعليبه في صناديق وتصديره إلى العالم، لم يقض مضجع «الفتنة»، بل ظلت مستغرقة في شخيرها!

والدعوات الطائفية، الضغائن المذهبية، والعصبيات الدينية التي كان يسوقها رجال الدين المفتونين بتصفية حسابات تاريخية مع مخالفيهم كانت كفيلة بإرسال «الفتنة» إلى المرحلة السابعة - وما بعدها - من النوم مباشرةً!

وشعارات «الإسلام دين ودولة»، و«الخلافة هي الحل».. وغيرهما من الشعارات التي أنتجتها جماعات الإسلام السياسي، التي تسعى إلى استبدال الدول المدنية بالدول الدينية، هي الأحلام المفضلة لدى هذه «الفتنة»

---

في البدء كان كل ذلك، ثم ظهر تنظيم «داعش»، فاكتشفنا متأخرين - كعادتنا في اكتشاف كل شيء - أن «الفطنة» لا «الفتنة»، هي التي كانت تغط في نوم عميق، أما الفتنة فقد أصابها المتاجرون بالدين بالأرق، فلم تعد تفلح معها الحبوب المنوّمة ولا الحقن المخدرة!

يروى عن الفيلسوف الكندي أنه قال: «من تاجر بدينه باعه بأبخس الأثمان»، ولعل أبرز مشكلاتنا قائمة مع تجّار الدين هؤلاء، المنتسبين إليه، والمتطفلين عليه، والمستفيدين منه، إذ لا يمكن الخلاص من الويلات التي ألصقوها بالدين إلا بالتخلص منهم أولاً، وربما كان تأسيس «مجلس حكماء المسلمين»، أخيراً، واحتضانه لعلماء تتميز خطاباتهم بالمرونة والتسامح والبعد عن التعصب، خطوة، لا بل قفزة، في الاتجاه الصحيح.

أما الخطوة التالية فتتمثل في إدانة أنفسنا بكل شجاعة، والكف عن تبني منهجية تحميل الغير - أياً كان هذا الغير - مسؤولية ما نحن فيه، فهذه المنهجية الدفاعية ليست سوى أسلوباً طفولياً للهرب من المشكلات التي نعجز عن مواجهتها وجهاً لوجه!

ففي زمن «داعش»، لا يجب أن نكتفي بلعن الظلام، ولا يجب أن نكتفي بإشعال شمعة. لكي نخرج من هذا النفق المعتم، علينا أن نشعل الشمعة مرة، ونلعن الظلام ألف مرة!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر