5 دقائق

لقد مَنّ الله تعالى على كثير من المسلمين بأداء فريضة الحج التي هي أجل العبادات البدنية والمالية والنفسية، والتي هي ختام الإسلام، يتجلى فيها مظهر العبودية الكاملة لله جل وعلا على وجه الكمال، ويتجلى فيها الإخلاص له سبحانه، والتجرد من الحظوظ النفسية والبدنية، ويستوي فيها بنو البشر على اختلاف ألوانهم وطبقاتهم ووظائفهم، وهي العبادة التي اختار الله تعالى لها زمانا ومكانا محددين، لا مجال للاجتهاد فيهما بحال، ليتحقق فيها محض التعبد لله تعالى، عرياً عن فلسفة العلة والحكمة.، كان فيها الحجاج على كمال الأدب مع الله تعالى والخشية له والخوف منه والمراقبة له، كلهم يود أن يرجع وقد حُطت خطاياه، ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فلم يكن يرفث ولا يفسق ولا يجادل ولا يماري ولا يقول الخنى ولا يرى لنفسه الأنا، فهو لين مع إخوانه، بارٌ بهم، يود لهم الخير ويكره لهم الضيم والضير، همه الكبير أن يكون حجه مبروراً وسعيه مشكوراً، ليكون جزاؤه جنةً عرضها السماوات والأرض، كذلك كان وكذلك أراد، ولا ريب أن الله عند ظن عبده به، ويتعين على كل حاج أن لا يشك في ذلك، ويتيقن أن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله أعظم، وأن مطالبه مهما جلّت فإن الله أكرم من طُلب، وقد سئل سفيان الثوري رحمه الله عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقيل له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له. ونظر الفضيل بن عياض رحمه الله إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل كريم فسألوه دانقا- يعني سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق. وقد كان لعمرو بن العاص رضي الله عنه قبل إسلامه جرائر كبيرة، في عدائه للإسلام وأهله وأذيته لهم، فلما شرح الله صدره للإسلام ظن أن لن يُغفر له، فبسط يده للنبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، لكنه سرعان ما قبضها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما لك يا عمرو؟» قال: أردت أن أشترط، قال: «تشترط ماذا؟»، قال: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».

نعم إنه يهدم ما كان قبله؛ لأن فيه تجديد التوبة النصوح لله تعالى، والتوبة تجُب ما قبلها، وهي تغسل الحوبة، وقد قال الله تعالى: «إن الحسنات يذهبن السيئات». وكم في الحج من حسنات! ابتداء بإخلاص التوحيد له، وانتهاء بترك المنكرات والمشتهيات، وفيه معاهدة الله تعالى على فتح صفحة جديدة معه سبحانه، يقبل فيها على صالح العمل ويترك الزلل، ويترقب لقاء الله تعالى بقلب سليم ونهج مستقيم، فكيف لا يكون حجه هادما لما قبله؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». وللحج المبرور علامات ودلالات ذكرها أهل العلم؛ منها أن يرجع من حجه بأحسن حال وأفضل مقال، فيلتزم عهد الله، ويفي بوعده لله تعالى، ويعمل بإرشاد الله تعالى، فقد قال له: «فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا». لأن من عرف ربه لا يرجع القهقري، ولكن يقدم شاكراً، ولله ذاكراً ولنفسه وشيطانه قاهراً. ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.. والله ولي التوفيق.

❊ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي

تويتر