كيب هورن.. رحلة استكشافية إلى نهاية العالم

عادة ما تعد الزوايا النائية على كوكب الأرض بوعود المغامرة واختبار الحدود، وتبقى منطقة كيب هورن الواقعة في أقصى جنوب قارة أمريكا الجنوبية رمزا خالدا لهذه المغامرة؛ حيث تلتقي في هذا المكان المحيطات العاتية وتتحقق فيه أحلام البحارة والمستكشفين وعشاق المغامرات.

وفي الصباح الباكر بعد الخامسة بقليل يزداد الترقب والتوتر، ولا يزال الظلام يلف الجو بعباءته السوداء ويظهر البحر بمظهر حالك السواد، وتتراقص الرغوة على الأمواج، ولكن من خلف نافذة الكابينة يسود شعور بالدفء والراحة، وتلوح في الأفق البعيد تلال صخرية قاحلة، وتتسابق الأفكار في الرأس، هل سيتمكن القبطان «عمر جاليندو» من الوصول إلى «كيب هورن»، لكي نتمكن من النزول إلى اليابسة عبر الزوارق المطاطية المتينة؟

وتعد المناورة بالسفينة دقيقة ومعقدة، وتحظى السلامة بالأولوية القصوى، ويجب ألا تتجاوز سرعة الرياح 30 عقدة كحد أقصى، ولا يبدو أن هذه الأمور تشير إلى رحلة بحرية عادية؛ نظرا لأننا نبحر على متن سفينة رحلات استكشافية بحرية، ويقتصر عدد الركاب فيها على 200 شخص فقط، ولا يوجد فيها عروض ترفيهية مسائية ولا إنترنت لاسلكي «واي فاي» ولا حتى شبكة هاتف.
وحانت لحظة الجد في تمام الساعة السابعة إلا ربع؛ حيث انطلق قائد الرحلة الاستكشافية «فرانشيسكو رافيليت» البالغ من العمر 34 عاما، على متن أحد القوارب المطاطية الصغيرة لمعاينة نقطة الإرساء في الخليج، وأعطى الضوء الأخضر للنزول.

وتغادر القوارب المطاطية السفينة بسرعة وتتمايل بين قيعان الأمواج، وبعد النزول من القوارب ينتظر السياح درج شديد الانحدار يمر عبر الشجيرات، وتشير اللافتة المعلقة إلى المحمية الطبيعية «كيب هورن» في تشيلي، وتؤدي الممرات الخشبية إلى النصب التذكاري، الذي يحمل صورة طائر القطرس المنمق، تخليدا لذكرى جميع مآسي سفن الشحن حول رأس «كيب هورن»، وتؤدي أيضا إلى الكنيسة الخشبية وبجوارها منارة، وفي الأسفل يزمجر هدير الأمواج عند ارتطامها بالمنحدرات الصخرية، بينما ترسم شمس الصباح لونها البرتقالي في الأفق.


ويحرس «خوسيه لويس لوارتي» هذه البقعة الواقعة في نهاية العالم منذ أكثر من عامين، ويعيش ضابط البحرية، البالغ من العمر 40 عاما، في تلك العزلة بجوار المنارة مع عائلته، وتعمل زوجته «باميلا» حارسة في المحمية الطبيعية، ويقوم الوالدان بتعليم ابنهما «جايل»، البالغ من العمر ثماني سنوات بأنفسهما، بينما تتابع ابنتهما «صوفيا»، البالغة من العمر 14 عاما، فصولها الدراسية عبر الإنترنت.

عواصف وكوارث
اكتسبت «كيب هورن» سمعة سيئة بسبب العواصف والتيارات البحرية والكوارث، وتمتعت هذه المياه الواقعة عند متلقى المحيط الأطلنطي والهادئ بأهمية قصوى لطرق التجارة حتى افتتاح قناة بنما في عام 1914، وكانت تعتبر أكبر مقبرة للسفن في العالم، ويعتقد أن أكثر من 800 سفينة قد غرقت وأكثر من 10 آلاف شخص قد جرفتهم الأمواج.

وعلّق الكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل (1819 - 1891)، الذي اشتهر بروايته «موبي ديك» قائلا: «»عادة ما يبدد «كيب هورن» غطرسة وغرور البحارة، الذين لم يعتادوا إلا على المياه العذبة، ويغمس حتى أولئك المعتادين على المياه الملاحة في مياه أشد ملوحة، فالويل للمبتدئ، والويل للجريء المتهور! فليتنزل عليه لطف الله ورحمته!«.
وفجأة نبه فريق المرافقة السياح إلى ضرورة الإسراع، فالطقس يوشك أن يتغير بشكل مفاجئ، وقد كان المحيط أكثر اضطرابا بشكل ملحوظ مما كان عليه في رحلة الذهاب.
وأوضح القبطان»عمر جاليندو«عند العودة على متن السفينة»فينتوس أوستراليس«قائلا:»لقد حالفنا حظ عظيم اليوم«، ولقد سار القبطان البالغ من العمر 35 عاما، ليلا لمسافة 100 ميل بحري من نقطة الانطلاق في ميناء»أوشوايا«الأرجنتيني إلى»كيب هورن«، ويتمكن السياح من النزول من السفينة في المتوسط كل ثلاث أو أربع رحلات؛ حيث لا يوجد ضمان لطقس جيد في نهاية العالم.


فسيفساء بديعة
وعندما يكون القبطان»عمر جاليندو«على دفة القيادة تشق سفينة الرحلات الاستكشافية طريقها عبر مياه أكثر هدوءا، ويضم هذا المشهد فسيفساء بديعة من المضايق والقنوات والجزر والجبال المغطاة بالجليد والكهوف والأنهار الجليدية، التي تلتقي بأذرع البحر.
ولقد كان خليج»وولايا«ملاذا لسكان»يامانا«الأصليين، الذين عاشوا حياة بدوية متقشفة في أرخبيل أرض النار، وكانوا يدهنون أجسادهم بشحوم الحيتان والفقمات، وينامون في قوارب الكانو أو خيام يقوم ببنائها من الأغصان، وعند الوصول إلى اليابسة يمكن رؤية نموذج مصغر لأحد هذه الملاجئ، إلى جانب لوحة تذكارية تشير إلى وصول المستكشف البريطاني«تشارلز داروين»في يناير 1833.
وقد سافر عالم الطبيعة الشاب، الذي لم يكن معروفا في ذلك الوقت«تشارلز داروين»، في رحلة حول العالم على متن السفينة»بيجل«، ووصف داروين السكان الأصليين بأنهم كانوا«أكثر المخلوقات بؤسا، التي رأيتها على الإطلاق في أي مكان»، ومع بداية القرن العشرين وجه المهاجرون الأوروبيون ضربة قاضية للسكان الأصليين بفعل الإبادة الجماعية والأمراض المستجلبة.
ويوجد في أحد المنازل خلف الخليج متحف يخلد تاريخ شعب«يامانا»الأصلي، ويمتد من خلفه طريق صاعد يعبر نهرا هادرا نحو نقطة للمراقبة، وتتلألأ أوراق أشجار الزان الجنوبية بلونها الأخضر الزاهي.


مضيق«بيا»
وتستمر الطبيعة في مشهد لا ينتهي، وفوق مضيق«بيا»يضغط لون السماء الرمادي الجليدي على الأرض، وتنعكس المنحدرات الصخرية كأنها تأخذ حماما في المرآة، وتتشبث شلالات صغيرة بالخضرة كخطوط متعرجة، ويمتد نهر»بيا«الجليدي إلى أسفل بشكل غير واقعي كامتداد ساطع للغيوم، ويرتفع الجدار الأمامي للنهر الجليدي إلى أكثر من 100 متر، ويضفي هذا الجبل الجليدي بتعرجاته وشقوقه وتصدعاته مظهرا بديعا.
ويختبئ نهر«بورتر»الجليدي في أعمق نقطة في المضيق، وصعد السياح مرة أخرى على متن القوارب الصغيرة، وشقت هذه القوارب طريقها عبر بحر من قطع الجليد، التي تطفو على سطح المياه في أشكال بلورية هشة وتشبه البط والبجع ورؤوس الغزلان، وينطلق الخيال بكامل طاقته عند رؤية هذه الكتل الجليدية متعددة الأشكال، ثم تنفتح السماء بشكل مذهل.
وتعد جزيرة«ماجدالينا» منطقة محمية لبطاريق ماجلان، ومرة أخرى يركب السياح القوارب المطاطية للوصول إلى اليابسة، وتتمايل البطاريق ببطء وهي تهرول نحو جحورها الترابية، بينما تكون سريعة كالسهام في الماء، ويمتد مسار مغلق عبر التلال الوعرة حتى يصل إلى منارة أخرى.
وما قد يبدو وكأنه زكام ليس صحيحا، فالبطاريق تعطس الملح لتتخلص منه، وبعد ساعتين، أعادتنا الأصوات المألوفة إلى واقعنا القديم، ضجيج محركات السيارات ورنين الهواتف الجوالة، وبعد خمسة أيام في البحر تنتهي الرحلة بالعودة إلى«بونتا أريناس»، ويزول التوتر، ولكن ما سيبقى إلى الأبد هو مغامرة العمر في«كيب هورن».

تويتر