تهدّد العاملين في مجالات مثل النقل والخدمات اللوجستية

الثورة الرقمية تكرر آثار «الصناعية» بالاستغناء عن وظائف بشرية

صورة

كثيراً ما يتكبد البشر ثمناً إضافياً لأي تقدم أو ابتكار تكنولوجي بخسارة بعض الأشخاص لوظائفهم، فضلاً عن مرور المجتمعات بهزات اجتماعية واقتصادية بالغة، ومن ذلك عصر الثورة الصناعية في أوروبا، وقيام الآلات بكثير من وظائف عمال المصانع بين نهاية القرن الـ18 وحتى ما قبل منتصف القرن الـ19.

ولا تُعد الثورة الرقمية التي يشهدها عصرنا استثناءً؛ فعلى امتداد السنوات الـ30 الماضية، جرى الاستغناء عن العديد من الوظائف التي ارتكزت عليها حياة الطبقة الوسطى في القرن الـ20، مثل الطابعين ومسؤولي بيع التذاكر، وصرافي البنوك، والعديد من العاملين على خطوط الإنتاج في المصانع، تماماً كما جرى مع أسلافهم من عُمال النسيج في بريطانيا قبل نحو قرنين، وفق ما تضمنه تقرير نشرته مجلة «ذا إيكونومست» البريطانية.

وهذا بالطبع لا ينفي أن التقدم التكنولوجي غالباً ما أسهم في جعل العالم مكاناً أفضل للعيش، ومقابل إنهاء بعض الوظائف، يُنشئ الابتكار أخرى جديدة، كما يجعل المجتمع أكثر ثراءً، ما يدفع الأغنياء إلى طلب مزيد من السلع والخدمات التي تُوجد بدورها فرصاً للعمل.

وعلى سبيل المثال، فقبل 100 عام، كان واحد من كل ثلاثة أميركيين عاملاً في مزرعة، وحالياً تنتج نسبة تقل عن 2% من هؤلاء قدراً أكبر بكثير من الغذاء، ولم تكن البطالة مصير الملايين التي تركت العمل الزراعي، بل وجد كثير منها أعمالاً جديدة بمقابل أفضل، بسبب تطور الاقتصاد، وفي أيامنا هذه يتراجع عدد العاملين بمهن «السكرتارية» مقابل تصاعد الطلب على مطوري البرمجيات ومصممي الإنترنت.

ومع أهمية التفاؤل، إلا أنه بالنسبة للعمال، فإنه غالباً ما تسبق الآثار السلبية للتكنولوجيا الجديدة فوائدها، وحتى مع ظهور فرص عمل ومنتجات جديدة رائعة، تتسع فوارق الدخول على المدى القصير، ما يؤدي إلى تفكك اجتماعي ربما تصحبه تغييرات سياسية، ويُصيب إعصار التكنولوجيا الدول المتقدمة أولاً ليجتاح البلدان الفقيرة بعد ذلك.

وما يدعو للقلق بصورة أولية تكرار حوادث مشابهة على امتداد التاريخ؛ ففي بدايات الثورة الصناعية جنى أرباحها أولاً أصحاب رأس المال، ثم وصلت فوائدها في ما بعد إلى العمال، وهو ما يتكرر حالياً؛ فأصحاب رؤوس الأموال هم أكثر المستفيدين من الازدهار الناجم عن الثورة الرقمية، يليهم أصحاب أفضل المهارات في العمل.

ومن بين الدوافع الأخطر للقلق أن الابتكار التكنولوجي يبدو في بدايته فقط، فمع وصول السيارات «ذاتية القيادة»، والأدوات المنزلية الذكية سيصل الضرر إلى العديد من الوظائف التي ظلت آمنة إلى الآن، كما سيكون لتطور إمكانات أجهزة الكمبيوتر أثر قوي في وظائف الطبقة المتوسطة في القطاع الخاص.

وسابقاً كانت أكثر الوظائف تأثراً بالآلات هي تلك التي تتضمن مهام روتينية متكررة، وهو ما اختلف حالياً؛ إذ تزداد قدرة أجهزة الكمبيوتر على أداء مهام معقدة بتكلفة أقل وعلى نحو أكثر فاعلية من البشر، بفضل ما تتمتع به من قوة المعالجة ومزايا «البيانات الكبيرة».

وحتى وظائف الخدمات ليست بمنأى عن خطر غزو الآلات؛ فكثيراً ما يكون بمقدور أجهزة الكمبيوتر اكتشاف المتطفلين في صور الكاميرا بصورة أكثر موثوقية من العين البشرية، كما يمكن لها رصد احتيال أو تشخيص مرض بفحص مجموعة من البيانات المالية أو الحيوية بدقة تزيد على المحاسبين أو الأطباء، وكانت دراسة حديثة لباحثين في جامعة «أوكسفورد» البريطانية أشارت إلى أنه يمكن أتمتة 47% من الوظائف الحالية خلال العقدين المقبلين.

وفي الوقت نفسه، يتضاعف عدد الشركات الرقمية الناشئة؛ بفضل التعليمات البرمجية الجاهزة المتاحة على الإنترنت، ومنصات خدمات الحوسبة السحابية مثل «أمازون»، وخدمات التوزيع على غرار متجر تطبيقات «آبل»، وخيارات التسويق في الشبكات الاجتماعية مثل «فيس بوك».

وربما يحتاج الأمر إلى وقت كي تنمو هذه الصناعات ومعها عدد الوظائف، فعندما اشترت «فيس بوك» تطبيق «إنستاغرام» لمشاركة الصور مقابل نحو مليار دولار عام 2012، كان لديه 30 مليون مستخدم، و13 موظفاً، في حين أن شركة «كوداك» لمعدات التصوير، التي تقدمت بطلب للإفلاس قبل أشهر قليلة، عمل بها 145 ألف شخص في عهد ازدهارها، وتُوظف «غوغل» حالياً 46 ألف شخص.

ومع حاجة الصناعات إلى مضي سنوات للنمو، يشعر السوق سريعاً بالاضطراب والآثار المترتبة على ظهور شركة ناشئة في قطاع ما، فموقع مثل «أيربنب» قد يُحول أصحاب المنازل ذات الغرف الفارغة لرجال أعمال، لكنه يُمثل تهديداً مباشراً لعمل الفنادق المخفضة التكلفة التي توظف العديد من الأشخاص.

وإذا ما صح هذا التحليل أو بعضه، فذلك يُشير إلى ضخامة الآثار الاجتماعية المتوقعة؛ فمن بين الوظائف الأكثر عرضة للخطر مهن بسيطة مثل النقل والخدمات اللوجيستية أو الإمدادات، في حين سترتفع أجور المهن المعتمدة على الإبداع والخبرات الإدارية، ما يؤدي إلى ثبات متوسط الأجور فترة، واتساع فجوة الدخل.

وبسبب الغضب من تزايد عدم المساواة سيواجه الساسة مشكلة، ربما كما حدث في احتجاجات عمال النسيج في بريطانيا، المعروفة باسم «لوديت» بين عاميّ 1811 و1817 ضد استخدام الأنوال الميكانيكية التي حرمت البعض من وظائفهم، وفي ظروف كهذه، لا يُعد اجتناب التقدم حلاً ملائماً؛ فأي دولة وحتى شركة تتوقف بعض الوقت، يهددها التأخر عن منافسيها المتحمسين للتكنولوجيا الجديدة.

ومن بين ما يفيد في تجربة المجتمعات الغربية خلال عهد الثورة الصناعية، دور افتتاح المدارس في تحسين أوضاع العمال في مرحلة متأخرة من الثورة الصناعية، وهو ما اعُتبر تغييراً جذرياً في تلك الفترة. وحالياً تحتاج المدارس والتعليم عموماً إلى تغيير يُعزز من إمكانات الإبداع البشري المميز عن قدرات الحواسيب.

كما ينبغي التقليل من أساليب التعليم المعتمد على الحفظ مقابل زيادة مساحة التفكير النقدي، ويمكن للتكنولوجيا أن تساعد في هذا الصدد من خلال «الدورات التعليمية الضخمة على الإنترنت» أو «إم أو أو سي»، وأيضاً ألعاب الفيديو التي تُحاكي المهارات الأساسية اللازمة في العمل.

وقد يمتد التغير إلى تعريف «تعليم الدولة»، لتُخصص مزيداً من الأموال لمرحلة ما قبل الالتحاق بالمدرسة؛ باعتبار أن المهارات الإدراكية والاجتماعية التي يتعلمها الأطفال في سنواتهم الأولى تُشكل جانباً كبيراً من إمكاناتهم في المستقبل، كما أن من المهم تعزيز التعليم المستمر للبالغين، وربما يجب إضافة سنة دراسية يلتحق بها الأفراد في مرحلة لاحقة من حياتهم.

وعموماً، لا يمكن لذي عقل سليم أن يُنكر فوائد الابتكار للبشرية، أو يرغب في العودة إلى النسيج اليدوي، لكن فوائد التقدم التكنولوجي تُوزع بشكلٍ غير متساو، لاسيما في المراحل الأولى من كل موجة جديدة، وهو ما يحتاج إلى جهود حكومية واجتماعية لإحداث الإصلاحات اللازمة قبل أن تغضب الشعوب.

 

 

تويتر