• المرصد

«المذيع الخطيب»

تعرف مجتمعاتنا العربية ظاهرة غير موجودة في العالم اسمها «المذيع الخطيب»، وهو تحول الإعلامي من شخص مهمته نقل الأخبار للناس إلى خطيب سياسي، يفرض على الناس آراءه وأفكاره.

هي قصة أبعد كثيراً عن خلط الخبر بالرأي، بل يمكن القول إنها تكاد تكون خلط الرأي بما تيسر من خبر. فالمذيع لا يذيع الخبر بعد أن يبتسره أو يشوهه أو يعيد إنتاجه على مزاجه إلا بوصفه مقدمة لرأيه العبقري، وهو يعتبر نفسه كلما تفنن في إبداع «افتكاساته» الشخصية جداً والخاصة جداً، كلما جلب زواراً فنجح كمذيع.

تحوّل الإعلامي من شخص مهمته نقل الأخبار للناس إلى خطيب سياسي.

أثناء ثورات «الربيع العربي» شاهدنا العجب العجاب، حيث ترك المذيعون مهنتهم كناقلي أخبار، وتحولوا لنشطاء ثوريين وخطباء ولا زمن ثورة 1919، ونافسوا حتى السياسيين الحقيقيين في مهمتهم، وبعد انحسار «الربيع العربي» وعودة الدول إلى سلطاتها، تحول هؤلاء الإعلاميون أنفسهم إلى خطباء للعقلانية والهدوء والحكمة، وما بين المرحلتين، تدثر بعضهم بلباس «الإسلام السياسي»، وطعم خطابه ببعض أدبياته، في حركة استعداد للتعامل مع الحكام الجدد القادمين وقتها حسب تصوره.

ما من شك في أن هذا السلوك يمثل افتئاتاً واضحاً على حقوق الناس والمجتمع، وهو جزء من العشوائية التي تعيشها بعض المجتمعات العربية، التي لا تعرف حدوداً بين الأشياء في المفاهيم والمهن والصلاحيات.

لقد انعكست هذه المشكلة على أشياء كثيرة في ساحة الإعلام، فالمذيع حينما يستضيف المصدر، ويفترض أن يكون إما متخصصاً أو ممثلاً بشكل أو بآخر للقضية المستضاف فيها، يتعامل معه كمنافس وليس كضيف، إذا تكلم المصدر دقيقتين تكلم المذيع 10، وإذا أبدى الضيف معلومة أظهر المذيع قبالتها 1000 معلومة، بل لا يتورع المذيع في هذا السباق عن أن يظهر استخفافه بالمصدر أو حتى طرده إذا اختلف معه، مادام هذا يزيد نجومية المذيع، ويرفع عدد الزيارات.

المذيع أيضاً في هذه الحالة يتحول إلى منجِّم يتنبأ بالأحداث، يصبح «نوسترادموس»، أنا قلت وأنا توقعت، وهو لا يتورع أيضاً عن أن يستدعي في الحلقة «يوتيوبات» سابقة، تؤكد ما توقعه إلى الحد الذي يجعل المشاهد يتوقع أن الحلقات هي برنامج تسجيلي عن إمكانات المذيع - الزعيم.

المذيع علاوة على هذا يدخل في مناوشات على الهواء، الذي استباحه مع المذيعين الآخرين، المختلفين معه في الفكر أو الأيديولوجيا أو المصالح، بل وحتى من المذيعين من صفه إذا هددوا مصالحه أو داسوا على طرفه، ومساجلات تصريحاً أو تلميحاً ويصبح المشاهد، المفروض أنه السيد وأن البرنامج خلق له «كي يعلم»، هو آخر من يعلم ما يدور من مصارعة أفيال أمامه.

إن مشهد «المذيع الخطيب» يذكر بالإذاعات الأهلية في مصر العشرينات والثلاثينات، في زمن ما قبل «شركة ماركوني»، التي حوت طرائف لا تكفيها مجلدات عن كيفية تحويل كل «مذيع خطيب» وقتها الميكرفون الذي أمامه إلى وسيلة شخصية، بعضهم يصفي خصومه، وبعضهم يبث رموزاً لرسالة غرامية وهكذا، فهل يعيد التاريخ نفسه ونكرر، مع فارق التكنولوجيا، القصة ذاتها.

تويتر