أصبح واحة للتسامح والازدهار بفضل الوعي والاستثمار في الزراعة
وادي «هونزا».. قصة نجاح نادرة في باكستان
يشعر زوار الوادي الجميل شمال باكستان، المحاط بسلسلة جبال تعلوها الثلوج الناصعة، بأنهم يقفون على حافة الأرض أو ربما في مركزها. وفي كلتا الحالتين، فإن الزائر قد لا يصدق أنه في باكستان، هذا البلد الذي يكافح منذ عقود لمواجهة الفقر والتلوث والتشدد الديني، ومن أجل تطوير النظام التعليمي الباهت، خصوصاً بالنسبة للنساء. فمدينة «كريم آباد» الواقعة في وادي «هونزا» بين جبال الهيمالايا الشاهقة، التي يجد الأهالي فيها ما يكفي من الطعام، أصبحت مكاناً مثالياً في باكستان، إذ تعتبر «واحة تسامح» تتوافر بها مدارس جيدة، وتتميز باستقرار الوضع الأمني، خلافاً لكثير من المناطق الباكستانية. وربما يعود ذلك إلى فهم الأهالي الصحيح لدينهم، فضلاً عن الدعم الملحوظ الذي تتلقاه المدينة من إحدى أكبر المؤسسات الخيرية في العالم.
دعم «آغا خان» قال رئيس مجلس مؤسسة «آغا خان» في باكستان، إقبال والجي، إن وادي «هونزا» نجا من التطرف الذي استشرى في مناطق عدة من البلاد. وأوضح واجلي: «عندما ترى المجتمعات تتحسن ظروف معيشتها، وتحصل على التعليم، فذلك يمنع التلاعب بها، ويجعلها محصنة في مواجهة القوى الخارجية». وقال وجهاء في المنطقة إن السكان باتوا يعتمدون بشكل كبير على الجهات المانحة، وعلى رأسها مؤسسة «آغا خان». في المقابل، يقول القيادي السياسي في «كريم آباد»، إزهار علي هونزيا: «السكان المحليون غائبون عن الإسهام في الاقتصاد»، مضيفاً: «جميع القرارات بشأن هذه المنطقة تتخذ في باريس، في إشارة إلى الأمير المقيم في باريس، والناس ينتظرون الآخرين لحل مشكلاتهم». وأفاد أحد سكان الوادي، ويدعى علي مراد (66 عاماً)، إنه يدين للمؤسسة التي دعمته مالياً هو وأسرته، وساعدته على التغلب على الفقر، وفك عزلته التي يعيشها بين الجبال الوعرة. ويتذكر علي أنه عندما كان صغيراً، كانت عائلته تكافح من أجل لقمة العيش، وكان معظم طعامها من القمح، واليوم يمتلك المزارع الباكستاني ثماني أشجار كرز، والعشرات من أشجار التفاح والمشمش، وقد تخرج ثلاثة من أبنائه في جامعات مختلفة، ومنهم اثنان يعمل أحدهما طاهياً في دبي، والآخر مترجماً متخصصاً في اللغة الصينية. |
العديد من الآباء يريدون إرسال بناتهم إلى المدارس، جنباً إلى جنب مع الطلبة الذكور في هذه المنطقة، وتمتلك معظم العائلات في «كريم آباد» أراضي فلاحية في الجوار، يعيشون على محاصيلها المتنوعة. ويقول الأهالي إنهم لا يتذكرون متى حدثت آخر جريمة بمنطقتهم، في إشارة إلى الأمن والاستقرار اللذين ينعم بهما وادي «هونزا». وخلافاً لبقية المناطق في باكستان، فإن مجرى النهر والجداول المائية ظلت بعيدة عن التلوث، الذي تتسبب فيه غالباً الأكياس البلاستيكية، والنفايات والمخلفات الصناعية.
وساعدت هذه العوامل أن يصبح المجتمع المتسامح في الوادي حصناً ضد التطرف، على الرغم من قرب المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة في الحزام القبلي، وإقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند. يقول حيدر علي (18 عاماً)، وهو يشاهد زملاءه وهم يلعبون كرة القدم في ملعب المدرسة، وفي الخلفية قمة جبل راكبوشي (25 ألفاً و551 قدماً): «هنا لدينا مرافق ونذهب إلى المدرسة، والإرهاب غير موجود». ومع أن الوضع الأمني مستقر والناس في «كريم آباد» لا ينتابهم الخوف من التفجيرات الانتحارية، أو هجمات المسلحين، إلا أن الوضع ليس مثالياً في الوادي البهيج، فالناس هناك يعانون انقطاعات الكهرباء، التي قد تدوم أياماً في بعض الأحيان. ويذكر أن قطاع السياحة ضرب في مقتل، بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي في نيويورك قبل 14 عاماً، كما أن قطع الأخشاب في الغابات المحيطة أدى إلى نقص حاد في حطب التدفئة، الأمر الذي يدفع العائلة الواحدة في الشتاء القارس إلى التجمع في غرفة واحدة، عندما تنخفض درجات الحرارة إلى الصفر وما دون.
اعتماد متزايد
وعبر زعماء قبائل في المنطقة عن قلقهم إزاء اعتماد السكان المتزايد على المعونات الخارجية، الأمر الذي يجعلهم عرضة للأزمات في حال انقطعت هذه المساعدات لسبب أو لآخر، وتزايد هذا القلق بعد قرار الحكومة في إسلام آباد طرد منظمة «أنقذوا الأطفال»، أخيراً، وتشديد إجراءات الترخيص لعمل المنظمات الأجنبية في البلاد.
لكن الآن «كريم آباد» هي مثال على ما هو ممكن في المناطق الريفية في باكستان، عندما يقبل السكان بدعم من المؤسسات الخيرية الدولية، ويقفون بحزم ضد التهديدات التي يشكلها التشدد. ويقول سفير الاتحاد الأوروبي إلى باكستان سابقاً، لارس غونار ويغمارك، «إن وادي هونزا أشبه بواحة خيالية». وذلك بعد أن زار المنطقة لأول مرة، العام الماضي.
وأكثر من 90% من سكان «كريم آباد» من الطائفة الإسماعيلية، وهم من أتباع عائلة «آغا خان»، التي يعتقد أنها تنحدر من سلالة الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ويحمل الأمير كريم الحسيني، المليونير الذي يعيش في فرنسا، لقب «آغا خان الرابع»، ليكون بذلك الزعيم الروحي للإسماعيليين بالوراثة، كما يعتبر الحسيني من أهم الداعمين لمنطقة وادي هونزا، وتصل ميزانية المشروعات التي يديرها الأمير في عشرات البلدان حول العالم، إلى نحو 600 مليون دولار. وتعمل مؤسسة الحسيني مع جهات خيرية دولية في تنمية وادي هونزا، إذ عبّدت الطرق وأنشأت المدارس والعيادات الطبية، إضافة إلى مراكز معالجة المياه لنحو 65 ألف نسمة. وخلال فترة الثمانينات، وفي محاولة لإنعاش اقتصاد المنطقة، أقنعت مؤسسة «آغا خان» المزارعين بإنتاج الكرز وأنواع الخوخ المختلفة، إضافة إلى المحاصيل التقليدية المتمثلة في القمح والبطاطا. واليوم تبدو «كريم آباد» كأنها بستان كرز كبير.
تعليم النساء
ووفقاً لصحف محلية، فإن الأمير يعد من أهم الداعمين للتعليم في المنطقة، إذ ارتفعت نسبة المتعلمين في وادي هونزا إلى 77%، ويقول سكان «كريم آباد» إن جميع من تقل أعمارهم عن الـ30، يمكنهم القراءة والكتابة، ويذكر أن نسبة الأمية في باكستان وصلت، في السنوات الأخيرة، إلى 58%، مع فارق صارخ بين الرجال والنساء.
وخلصت دراسة للبنك الدولي، نشرت العام الماضي، إلى أن نسبة النساء المتعلمات في بعض المناطق بالوادي، وصلت إلى 90%، مقارنة بـ5% في منطقة «دايمر» الجبلية، التي تبعد نحو خمس ساعات. ويقول مدير فندق «هيل توب»، في «كريم آباد»، جاويد علي: «عندما كنت في المدرسة، كان هناك القليل الذين يتحدثون الإنجليزية»، مضيفاً: «اليوم يتحدث الجميع هذه اللغة بطلاقة». ويضطر الأطفال للمشي أميالاً عدة في مناطق ترتفع نحو 9000 قدم فوق سطح الأرض، من أجل الوصول إلى المدرسة.
وبعد انتهائهن من الدراسة المتوسطة، تلتحق بعض الطالبات بمدرسة «آغا خان» الثانوية للبنات، وتدرس الفتيات في هذه الثانوية الرياضيات والعلوم فقط. ومعظم الخريجات يكملن دراستهن في الجامعة، وفقاً لمديرة المدرسة، زهرة عليداد، التي تخرجت أيضاً في هذه المدرسة الثانوية.
تجارة عادلة
نساء يعرضن منتجات زراعية ويدوية في وادي هونزا. أرشيفية
|
اشتهرت منطقة وادي «هونزا»، على مدى قرون عدة، بإنتاج الفاكهة والمكسرات، ومنذ عام 2000 ازدهرت بعض الزراعات في ظل ظروف ملائمة. لكن المسألة ليست ببساطة كتب توزع على المدارس٬ أو منح وملاعب للطلاب، أو مشروعات ريّ ومولدات كهربائية. وفي ذلك يقول ريتشارد فريند٬ الذي كان معنياً بالمشروعات في المنطقة منذ بدايته: «بفضل التجارة العادلة أصبح الوضع الآن مقبولاً للنساء أن يعملن ويستلمن مناصب إدارية أيضاً». وهذا ليس بالإنجاز الهيِّن في مجتمع تقليدي.
فالمجتمع المحافظ عرفت عنه رعاية العلوم والفن، والتعليم لكلا الجنسين الأولاد والبنات، لكن لاتزال فكرة أن مركزي إنتاج الفواكه والمكسرات في وادي «هونزا» ليس فقط لديهما معظم القوى العاملة من النساء، والذين يقارب عددهم الـ200، لكن أيضاً أن يكون المركزان بإدارة ناجحة من النساء٬ فكرة احتاجت الكثير من الرجال الذين أعادوا التفكير مرة أخرى، وتخلوا عن بعض الأحكام السابقة.
شارك الرجال والنساء في موسم الحصاد هذا العام، ويتم تجفيف المشمش في الموقع نفسه من الوادي، وبعد بضعة أيام بالإمكان فصل بذور المشمش، ويتم إرسالها إلى وحدة معالجة البذرة٬ حيث يتم كسرها واستخراج النواة من داخلها. وتكون القطع الصغيرة هي الأنسب لتنتقل إلى عملية استخراج الزيت، حيث يتم استخراج زيت لب المشمش، وتكون العملية مشابهة لعملية استخراج زيت اللوز.
وقد حسنت التجارة العادلة الحياة في وادي هونزا، لكن الحصول على لقمة العيش هناك لايزال مسألة صعبة٬ ليس فقط بسبب الظروف المناخية الصعبة٬ حيث تمر أشهر من الصقيع المستمر ليأتي صيف حار جداً٬ أو بسبب العزلة الجغرافية٬ على الرغم من وجود طريق قديم يعرف بـ«خط كراكورام السريع»، والذي بني في فترة السبعينات، وربط الوادي بمدينة بيشاور وإسلام باد جنوباً، والحدود الصينية في الشمال.
طول العمر
يقع وادي «هونزا» شمال شرق البلاد، في الجزء الذي تسيطر عليه باكستان في كشمير، بالقرب من حدودها مع الصين، على ما كان يعرف قديماً بطريق الحرير. وتعادل مساحة الوادي مساحة لبنان تقريباً، ويبلغ عدد سكان المنطقة الجبلية نحو 60 ألف نسمة. وتعد مدينة «كريم آباد» أكبر مدن هونزا، التي تتألف من وادٍ طويل ضيق في سلسلة جبال «كراكورام»، ومعظم مواطني هونزا يعملون في زراعة المحاصيل المتنوعة، مثل الشعير والعنب والبرقوق والقمح. وأهم الصناعات الرئيسة فيها إنتاج الأقمشة الصوفية والصناعات اليدوية الدقيقة.
ويعتقد الكثيرون أن شرب المياه الجبلية الغنية بالمواد المعدنية، واتباع نظام غذائي متواضع، وراء طول أعمار سكان الوادي؛ إذ يعيش كثير منهم 90 عاماً أو أكثر، ويتكون النظام الغذائي الخاص بهم بصفة رئيسة من الفواكه، كالمشمش والخوخ، والحبوب والمكسرات والخضراوات. وكانت هونزا منطقة معزولة تحت حكم زعيم محلي، إلى أن بسطت إسلام آباد سيطرتها عليها في 1949، تطبيقاً لمعاهدة أقرتها منظمة الأمم المتحدة، أنهت الصراع بين باكستان والهند في إقليم كشمير.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news