تسمى «فرسان الثورة».. وتُغيث مصابي الاحتجاجات العراقية

«توك توك».. سيارات أجرة الفقراء على الخطوط الأمامية للاشتباكات

صورة

تأتي تهديدات الموت عادة عبر الهاتف، لكن خصوم أبو طيبة لم يتمكنوا من الوصول إليه. إذ فقد سائق عربة «توك توك» هاتفه قبل أيام، بعد إطلاق النار عليه، أثناء محاولته سحب رجل أصيب بجروح خطيرة من منطقة التوتر. لذلك تلقى تحذيراً، وتهديداً أسفل بابه، يقول إنه سيُقتل إذا استمر.

وفي ذلك يقول أبو طيبة (34 عاماً): «دعهم يمضون قدماً، ويحاولون».

وهذا السائق جزءٌ من أكثر المجموعات غرابة في الاحتجاجات الجماهيرية التي هزت بغداد، وغيرها من المدن العراقية الكبيرة، خلال الفترة الماضية. إنه سائق «توك توك»، ضمن الآلاف بالأحياء الفقيرة في بغداد، يقوم بنقل الناس عبر العاصمة على سيارته ذات العجلات الثلاث.

على الأقل، هذا ما فعلوه حتى شهر أكتوبر، عندما بدأ مئات الآلاف من الناس بالخروج إلى الشوارع، أولاً في بغداد، ثم في عشرات المدن الأخرى. الجميع غاضبون من جشع قادتهم، ويحتجون على الاضطرار إلى العيش في دولة فاسدة، حيث تكسب الحكومة مليارات الدولارات من صادراتها النفطية، بينما تعيش الجماهير في فقر.

يوجد سائقو «التوك توك» في الميادين والحدائق العامة والجسور، التي يحتلها المحتجون، ويجلبون المصابين من الخطوط الأمامية إلى المستشفيات الميدانية في الخلف، ثم يعودون بالماء والكتل الخرسانية للحواجز.

الوقوف بلا خوف

العربات سريعة وصغيرة تصلح للمناورة في الشوارع الضيقة، وفي بعض الأحيان يتدخل سائقو «التوك توك» لإخلاء الجرحى والمصابين في وقت قياسي، وسط حذر شديد قبل أن تبدأ قوات الأمن في إطلاق النار على الحشود. وقبل أسبوعين تقريباً، قالت اللجنة البرلمانية العراقية لحقوق الإنسان إن 319 شخصاً، قد قتلوا منذ بداية الاحتجاجات، في أكتوبر، لكن لا توجد أرقام رسمية. وفي هذه الأثناء، يقول الأطباء إن وزارة الصحة أمرت المستشفيات الحكومية بالامتناع عن تقديم المعلومات. لكن كل يوم تقريباً يفقد عدد من المحتجين حياتهم في بغداد أو كربلاء أو البصرة أو الناصرية. لكن الناس لا يستسلمون.

بمعنى ما، إن «التوك توك»، الذي تم استيراده من الهند، وظهر لأول مرة في شوارع العراق، منذ نحو أربع أو خمس سنوات؛ يرمز إلى التراجع البطيء للعراق إلى مكانة دولة نامية، حيث يمكن للأغنياء فقط ركوب سيارة مكيفة؛ في حين أن الناس العاديين يركبون «التوك توك». والآن، تحولت هذه السيارة المتواضعة من سيارة أجرة للفقراء إلى رمز «فرسان الثورة»؛ العبارة التي كتبت على الجدران في ميدان التحرير، مصحوبة بصورة لـ«توك توك» مُجنح. وحتى الصحيفة التي يُصدرها أولئك الذين احتلوا الساحة تسمى «توك توك».

وعلى مدار بضعة أسابيع، وفي منطقة تبلغ مساحتها بضعة كيلومترات مربعة، تمكن المتظاهرون من إنشاء شيء ما، فشلت الحكومة العراقية في تأسيسه بالبلاد في السنوات الأخيرة: مجتمع منظم للغاية تشارك فيه لجان مختلفة مسؤولة عن الاحتياجات المختلفة للمواطنين، مثل الكهرباء ومياه الشرب والغذاء والمراحيض. ويستعين المشرفون بالحبال لإنشاء ممرات لإجلاء الجرحى، بينما يوجد في منطقة مرتفعة مهجورة - طُرد منها القناصة أواخر شهر أكتوبر - مساكن ومكتبة ومسجد.

رأس الحربة

إذا كانت «التوك توك» هي الوحدات الآلية لثورة أكتوبر العراقية، كما يسميها النشطاء، فإن أبو طيبة هو رأس الحربة. فمجمل سيارته، عدا مقعد الراكب، مغطى بصفائح معدنية جلبها من تاجر خردة. وبدلاً من الزجاج الأمامي، الذي تم تحطيمه برصاص القناصة؛ صنع شاشة مصنوعة من شبكة سلكية وظهر ثلاجة، لتكون مثالية لصد أسطوانات الغاز المسيل للدموع. كان أبو طيبة يعمل كل ليلة، ويسير إلى الأمام نحو الظلام الصاخب بسبب المواجهات، التي لا يمكن رؤيتها إلا من خلال وميض أخضر لمؤشرات الليزر المستخدمة من قبل المتظاهرين. ولا يبدو أبو طيبة مندهشاً لأنه أصبح هدفاً للتهديدات بالقتل؛ فقد أمضى سنوات مقاتلاً في ميليشيات تسيطر عليها إيران. وتشكلت هذه الوحدات المعروفة باسم «وحدات الحشد الشعبي» عام 2014، استجابةً للذعر الواسع النطاق، الناشئ عن توسع تنظيم «داعش». لكن وضعهم كان يمثل مشكلة منذ البداية؛ حتى عندما كانوا يتلقون الرواتب والاعتراف من قبل الدولة العراقية، كانوا تحت سيطرة طهران. إن أفراد هذه الميليشيات المقنعة على وجه التحديد، الذين لا يرتدون شعارات تحديد الهوية، هم الذين ينشرون الموت والرعب في صفوف المتظاهرين بإطلاق النار على المحتجين. لذلك قرر أبو طيبة تغيير موقفه وموقعه، قائلاً: «لقد طفح الكيل منهم».

حتى بعد أسابيع من الاحتجاج، ليس لدى الحكومة ما تقدمه للمتظاهرين غير الإهانات والعنف. وبعد فترة وجيزة من بدء الحركة، أغلق رئيس الوزراء المستقيل، عادل عبدالمهدي، الإنترنت في جميع أنحاء البلاد؛ ثم ادعى أن قوات الأمن لم تفتح النار على المتظاهرين، على الرغم من وجود أكثر من 100 جثة تثبت خلاف ذلك. وأخيراً، وعدت الحكومة بالامتناع عن استخدام «الأسلحة الفتاكة». ومنذ ذلك الحين، تطلق قوات الأمن خراطيش الغاز المسيل للدموع من عيار 40 ملليمتراً، والتي هي أكبر بكثير من الخراطيش العادية. ووفقاً لشهود عيان، فإن قوات الأمن تميل إلى استهداف رؤوس المتظاهرين وصدورهم، بدلاً من إطلاق الخراطيش في الهواء.

وهناك أشرطة فيديو مروعة تم تداولها لأشخاص مصابين. إنهم يظهرون ما يحدث عندما تتم إصابة شخص ما في رأسه، من مسافة قريبة بواسطة الخراطيش المعدنية، إذ يمكن رؤية الغاز المسيل للدموع وهو يخرج من فروة الرأس. ووفقاً للأرقام التي جمعها العديد من الأطباء العاملين بالمستشفيات في المدينة، قُتل 31 شخصاً، في أقل من أسبوعين، بسبب قنابل الغاز المسيل للدموع.

كسر الحواجز

ستتمتع الدولة، دائماً، بميزة عندما يتعلق الأمر بحجم القوة التي يمكن أن تستخدمها ضد المتظاهرين. لكن دون علمهم، فإن قادة العراق في طريقهم لخسارة معركة مختلفة، حول معنى الرموز. ويتم اعتقال الناس لمجرد أنهم يحملون العلم العراقي. وحتى ادعاء رئيس الوزراء المستقيل أن المتظاهرين الشباب يعيدون تمثيل لعبة الفيديو الشهيرة على الإنترنت «أرض المعارك الشهيرة»، استخدم للسخرية وانقلب ضد الحكومة. وبدأ بعض المتظاهرين ارتداء ملابسهم كشخصيات ألعاب، وهم يتجولون وسط سحب من الغاز المسيل للدموع، في بغداد، مرتدين أزياء خاصة، يعبرون بها من عالم خيالي إلى واقع.

ولأن هناك من يهتم بالدفاع عن سلطتهم وملياراتهم من العائدات، تجمع كبار السياسيين، قبل أسبوعين، إلى جانب واحد من أهم رجال الدين، للقاء صانع ملك الحكومات العراقية: قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وقائد الميليشيات في العراق. لقد أراد التأكد من أن الجميع مازالوا يذعنون لخططه؛ أي إنهاء الاحتجاجات بأي طريقة.

مقاومة عنيفة

خلال الاجتماع، كشف رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، الذي تمت إقالته العام الماضي، بوضوح عن معارضته لهذا النهج. لكن السؤال الرئيس الماثل هو ما إذا كانت استراتيجية القمع الوحشي ستنجح بالفعل. أو ما إذا كانت ستحول الاحتجاجات إلى حركة مقاومة عنيفة.

أبو الطيبة، سائق «التوك توك» الشجاع، يعتقد أن هناك فرصة ضئيلة لحل معقول. وعلى الرغم من ذلك، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً، في الوقت الحالي، يبدو مختلفاً، وهو كيفية دفع فاتورة المستشفى لابنته البالغة من العمر عامين، إضافة إلى الدين المتراكم عليه؛ قائلاً: «مازلت لم أسدد، حتى الآن، الأقساط الثلاثة الأخيرة للتوك توك، والمقدرة بنحو 75 ألف دينار»، أي ما يعادل 630 دولاراً.

• 40 ملليمتراً، هي عيار خراطيش الغاز المسيل للدموع، التي تطلقها قوات الأمن.

• «التوك توك»، الذي ظهر للمرة الأولى في شوارع العراق منذ نحو 5 سنوات، يرمز إلى التراجع البطيء للعراق إلى مكانة دولة نامية.


ملاحقة محتملة

يقول محتجون عراقيون إن سيارات الإسعاف إما لم يكن بإمكانها الوصول إلى الضحايا في الشوارع المكتظة بالحشود، أو أنها كانت أهدافاً للقناصة. لذلك ملأت عربات «التوك توك»، التي يكسب أصحابها عيشهم من نقل الركاب، فراغ سيارات الإسعاف، ونزلت إلى الشوارع لنقل الضحايا.

وبينما يفر المحتجون وسط إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، يدخل سائقو عربات «التوك توك» إلى قلب المكان، بينما تدوي طلقات الرصاص قريبة. وقال أحد أصحاب هذه السيارات العربات إنها تنقل الجرحى، وتساعد المحتجين. مضيفاً أن القوات تطلق النار على المحتجين، وأن العربات تنقلهم إلى المستشفيات.

وتشق عربات «التوك توك» ثلاثية العجلات طريقها وسط المحتجين، بينما تدوي أصوات طلقات الرصاص في الهواء، ويرتفع الدخان الأسود في الأفق. إنها وسيلة إنقاذ اضطرارية، خلال انتفاضة حولت الشوارع العراقية إلى ساحة قتال. ومعظم أصحاب تلك العربات السيارات لا تتجاوز أعمارهم 25 عاماً، ووسيلة نقل الركاب هذه هي مصدر دخلهم اليومي الوحيد.

لكن ذلك لم يمنعهم من التطوع لنقل المصابين خلال الاحتجاجات، بحسب قول أحدهم: «لا نتقاضى أية أجور نظير ما نقوم به في التظاهرات، ونستنفر كل جهودنا وطاقاتنا لنقل الجرحى والمصابين بالاختناق، ونوصل أيضاً المواد الغذائية للمحاصرين، وحاول متظاهرون جمع تبرعات من المال لنا، لكننا رفضنا».

وتابع: «نحن 500 متطوع من أصحاب (التوك توك)، أو أكثر، نشارك بشكل دوري في تقديم الدعم والمساعدة، حينما يتعرض المتظاهرون لإطلاقات مكثفة من الغاز والرصاص الحي، وأعرب السائق عن قلقه من احتمال ملاحقته بعد انتهاء الاحتجاجات، بقوله: «ربما ستكون هناك ملاحقة من الجهات الأمنية، بسبب موقفنا هذا». ومنذ بدء الاحتجاجات، تبنت حكومة عبدالمهدي حزم إصلاحات عدة في قطاعات متعددة، لكنها لم تُرضِ المحتجين، الذين يصرون على تغيير الطبقة السياسية.

• «التوك توك» وسيلة إنقاذ اضطرارية، خلال انتفاضة حولت الشوارع العراقية إلى ساحة قتال.

عربات «التوك توك» تدخل إلى قلب المكان لنقل المصابين. أرشيفية


صحيفة ضد التعتيم

يعرض الغلاف الأمامي، لصحيفة يصدرها المحتجون في بغداد، صوراً للمتظاهرين وهم يلوحون بالأعلام، ويتحدون حملة القمع التي تشنها السلطات، خلال أسابيع من الاضطرابات المميتة، التي هزت البلاد بعد عامين من الهدوء النسبي عقب هزيمة تنظيم «داعش». وتحمل الصحيفة، اسم «التوك توك»، وباتت رمزاً لاحتجاجات العراق، نظراً لقيامها بنقل المتظاهرين الجرحى إلى خيام طبية مؤقتة.

بدأت صحيفة «التوك توك» كمحاولة للالتفاف على التعتيم الإعلامي، من قبل السلطات التي أغلقت الإنترنت لأسابيع متتالية، وتبلور هذه الصحيفة مطالب الاحتجاجات التي اجتاحت بغداد وجنوب العراق. والنشطاء الذين لديهم خلفية في نشر الأخبار على الإنترنت هم وراء المشروع. ويكتبون المقالات ويقومون بتحرير الصحيفة وطباعتها في متاجر الطباعة المحلية وتوزيع نحو 2000 نسخة على معسكرات الاحتجاج في بغداد مرات عدة بالأسبوع.

وقال المحرر أحمد الشيخ ماجد، الذي كان يجلس في مقهى ببغداد يعرض مقالات على حاسوبه المحمول، «تعتبر (التوك توك) إحدى الطرق القليلة، التي يمكن للمتظاهرين في الشارع الحصول على تقارير حقيقية وموثوقة منها، عن الاحتجاجات التي تحدث بالبلاد».

وتعرض الصحيفة مقالات كتبها نشطاء محليون، وترجمات لتقارير وسائل الإعلام الدولية حول العراق. ويوزع المتظاهرون نسخاً من «التوك توك» في ميدان التحرير، المعسكر الرئيس للاحتجاج في العاصمة. «إنها رائعة، لأنها تنشر أخباراً دقيقة» يقول أحد المتظاهرين، وهو يقرأ نسخة من الصحيفة: «لا نعرف بالضبط أين تكتب أو تطبع، وهذا على الأرجح هو الأفضل بالنسبة للمحررين، لتجنب الاعتقال».

الصحيفة الورقية جاءت رداً على قطع خدمة الإنترنت. أرشيفية

تويتر