هجرهم الأهل والأقارب

يابانيون مسنّون يدخلون السجن بحثاً عن العطف والحنان

صورة

يشهد اليابان موجة متصاعدة من جرائم السرقة التي يرتكبها مسنون تتجاوز أعمارهم 65 عاماً، فقط بقصد الدخول الى السجن والبحث عن رفقة فيه، الغالبية العظمى منهم من النساء اللاتي يلجأن لسرقة أغراض بسيطة للدخول الى السجن ليجدن هناك من يؤانسهن ويخفف عزلتهن، إضافة إلى ذلك فإن ظروف السجن، حيث الطعام الجيد والوفير، والرفقة مع الأقران، أفضل لديهن من العيش بمفردهن.

كانت رعاية كبار السن في اليابان تقع في الماضي على عاتق الأسر والمجتمعات، إلا أن ذلك تغير خلال الفترة بين 1980 إلى الوقت الراهن، فقد زاد عدد كبار السن الذين يعيشون بمفردهم بأكثر من ستة أضعاف، ليصل إلى ما يقرب من ستة ملايين مُسن. وكشفت دراسة استقصائية أجرتها حكومة طوكيو عام 2017 أن أكثر من نصف كبار السن، الذين تم ضبطهم وهم يسرقون من متاجر يعيشون بمفردهم؛ وأن 40% منهم إما ليس لديهم عائلة أو نادراً ما يزورهم أقارب. ويقول هؤلاء المسنون إنه ليس لديهم في الغالب من يلجأون إليه عندما يحتاجون إلى المساعدة. حتى المسنات اللاتي يذهبن الى مكان ما يشعرن بعدم الاهتمام من الآخرين، ولهذا السبب يجدن عزاءهن في السجن.

وتقول مديرة سجن لواكوني، يومي موراناكا، الذي يقع على بعد 30 ميلاً خارج هيروشيما: «قد يكون لديهن منزل، وعائلة، ولكن هذا لا يعني أنهن يشعرن بأنهن معترف بهن كآدميات في المنزل، وإنما كشخص عليه فقط أن ينجز الأعمال المنزلية».

نساء مهمّشات

غالباً ما تكون النساء المسنات مهمشات اقتصادياً - ما يقرب من نصف هؤلاء النسوة يبلغ عمرهن 65 عاماً أو أكثر- واللاتي يعشن بمفردهن يواجهن أيضاً فقراً مدقعاً مقارنة بنسبة 29% من الرجال على سبيل المثال. تقول احدى السجينات: «مات زوجي العام الماضي»، وتمضي قائلة: «لم يكن لدينا أي أطفال، لذلك أصبحت وحدي». وتسترسل «ذهبت إلى سوبر ماركت لشراء الخضراوات، ورأيت مجموعة من اللحم البقري، أردت شراءها، الا أن ذلك كان سيشكل عليّ عبئاً مالياً، لذلك سرقت اللحم».

لم تضع الحكومة أو القطاع الخاص برنامجاً فعالاً لإعادة تأهيل كبار السن، لذلك ظلت تكاليف اقامتهم في السجن في ارتفاع مستمر. وساعدت النفقات المرتبطة برعاية كبار السن على دفع التكاليف الطبية السنوية في المنشآت الإصلاحية. ويتم توظيف عمال متخصصين لمساعدة كبار السن من النزلاء على الاستحمام واستخدام الحمامات أثناء النهار، ولكن في الليل يوكل للحراس التعامل مع هذه المهام.

في بعض المنشآت الإصلاحية، يصبح الضابط الاصلاحي ما يشبه مساعد التمريض في المنزل. تقول الضابط بسجن توتشيغي للنساء، ساتومي كيزوكا، والذي يقع على بعد نحو 60 ميلاً إلى الشمال من طوكيو، إن واجباتها تشمل الآن التعامل مع سلس البول. وتقول عن السجينات: «إنهن يخجلن ويخفين ملابسهن الداخلية الملوثة»، وتمضي قائلة: «لكنني أخبرهن بإصرار أن يحضرنه لي كي أغسله»، لهذا السبب ترك أكثر من ثلث الضابطات الإصلاحيات وظائفهن في غضون ثلاث سنوات.

في عام 2016، أصدر البرلمان الياباني قانوناً يهدف إلى ضمان حصول كبار السن العائدين للسجن على الدعم من أنظمة الرعاية الاجتماعية والخدمات الاجتماعية في البلاد. ومنذ ذلك الحين، عملت مكاتب النيابة العامة وسجونها بشكل وثيق مع الوكالات الحكومية لحصول المسنين على المساعدة التي يحتاجون إليها. إلا أن الراحة النفسية في كنف الاقارب، والتي تبحث عنها السجينات تكمن خارج نطاق نظام المؤسسات الاصلاحية.

توشيو تاكاتا، البالغ من العمر 69 عاماً، سجين سابق، قال إنه انتهك القانون لأنه كان فقيراً. لقد أراد أن يعيش مجاناً في مكان ما، حتى لو كان وراء القضبان. يروي قصته قائلاً: «وصلت إلى سن التقاعد، ثم نفدت أموالي. لذلك فكرت انه يمكنني العيش مجاناً إذا ذهبت الى السجن». ويمضي قائلاً: «لذلك سرقت دراجة وذهبت بها إلى مركز الشرطة وأخبرت الشرطي هناك: انظر لقد سرقت هذه الدراجة». وبالفعل نجحت خطته، وكانت تلك أول جريمة يرتكبها، وكان عمره في ذلك الوقت 62 عاماً. لكن المحاكم اليابانية تتعامل مع سرقة الاشياء التافهة بحزم وجد، لذلك صدر عليه الحكم بالسجن لمدة عام. ولكن بعد الافراج عنه كرر فعلته، وذهب هذه المرة الى حديقة مهدداً النساء بسكين دون ان يقصد إحداث أي ضرر لهن، لقد فعل ذلك من أجل ان يتصل أحدهم بالشرطة لتقبض عليه. ويقول إنه يفضل الحياة في السجن لآنه يحصل على مساعدة مالية هناك، اضافة لذلك يستمر في تلقي راتب تقاعده وهو في السجن. ويردف قائلاً: «لا يعجبني ذلك، لكنني أستطيع البقاء هناك مجاناً، وعندما أخرج، أكون قد وفرت بعض المال. لذلك ليست إقامتي هنا مؤلمة».

الفقر هو السبب

كيكو هي مثال آخر لهذه الفئة من المسنات، ليس هذا هو اسمها الحقيقي، تبلغ من العمر 70 عاماً، صغيرة الحجم، تقول إن الفقر هو الذي دفعها للسرقة والدخول للسجن. وتمضي قائلة: «لم أتمكن من التوافق مع زوجي، ولم يكن لدي مكان أعيش فيه، لذلك أصبح خياري الوحيد هو السرقة». وتضيف «حتى النساء في الثمانينات، اللائي لا يستطعن المشي بشكل صحيح يرتكبن مثل هذه الجرائم لأنهن لا يجدن الطعام والمال».

تعد السرقة أكبر جريمة يرتكبها الجناة المسنون، معظمهم يسرق طعاماً تبلغ قيمته أقل من 3000 ين (20 جنيهاً إسترلينياً) من أي متجر يزورونه بانتظام. ويشير الباحث الديموغرافي من أصل أسترالي بدار الأبحاث التي تتخذ من طوكيو مقراً لها، مايكل نيومان، إلى أن الراتب التقاعدي الحكومي الأساسي «الضئيل» في اليابان، لا يكفي للعيش بكرامة.

وفي ورقة نشرت في عام 2016، يحسب نيومان أن تكاليف الإيجار والغذاء والرعاية الصحية وحدها تجعل صاحب الراتب التقاعدي يقع تحت طائلة الديون ما لم يكن لديه دخل آخر، وكان من المعتاد في الماضي أن يرعى الأبناء والديهم، لكن قلة الفرص الاقتصادية في المقاطعات دفعت العديد من الشباب إلى الابتعاد عن موطنهم، تاركين والديهم يعتنون بأنفسهم. ويقول: «لا يريد المتقاعدون أن يكونوا عبئاً على ابنائهم، ويشعرون أنه إذا لم يتمكنوا من العيش على راتب التقاعد الحكومي، فالطريقة الوحيدة كي يتحملوا العبء هي الدخول الى السجن. ويعتقد أن تكرار الجنحة هو وسيلة «للعودة إلى السجن»، حيث يجد ثلاث وجبات كافية يومياً، ولا يتحمل أي فواتير، «ويبدو الأمر تقريباً كما لو أنك خرجت من وظيفة لتعود اليها مرة أخرى».

رعاية المسنين

ويجادل مايكل نيومان بأنه سيكون من الأفضل بكثير - وأرخص بكثير - رعاية المسنين دون أن تتحمل الحكومة تكاليف إجراءات المحكمة والسجن، «نستطيع بالفعل بناء قرية تقاعدية، حيث يتخلى المتقاعدون عن نصف معاشاتهم التقاعدية، ليحصلوا بالمقابل على الطعام المجاني والإقامة، والرعاية الصحية المجانية وما إلى ذلك، وممارسة الالعاب والرياضة مع بقية السكان الآخرين، ويكون لهم قدر نسبي من الحرية، وسيكلف الأمر أقل مما تنفقه الحكومة في الوقت الحالي على المساجين».

لكنه يشير أيضاً إلى أن ميل المحاكم اليابانية إلى إصدار أحكام بالحبس بسبب السرقة البسيطة «غريب بعض الشيء، من حيث العقوبة التي تلائم بالفعل الجريمة». وكتب في تقريره لعام 2016: «قد تؤدي سرقة سندويش بقيمة 200 ين (1.40 جنيه إسترليني) إلى فاتورة ضريبية تتحملها الحكومة تبلغ 8.4 ملايين ين (58 ألف جنيه إسترليني) لحكم بالسجن لمدة عامين». ويمضي قائلاً: «قد يكون هذا مثالاً افتراضياً، لكنني قابلت إحدى النزيلات المسنات التي حكم عليها بالسجن لمدة عامين لارتكابها جريمة ثانية فقط: سرقة زجاجة من الفلفل بقيمة تعادل 2.50 جنيه إسترليني».

• زاد عدد كبار السن الذين يعيشون بمفردهم بأكثر من ستة أضعاف، ليصل إلى ما يقرب من 6 ملايين مُسن.

• كشفت دراسة استقصائية أجرتها حكومة طوكيو عام 2017 أن أكثر من نصف كبار السن، الذين تم ضبطهم وهم يسرقون من متاجر يعيشون بمفردهم؛ وأن 40% منهم إما ليس لديهم عائلة أو نادراً ما يزورهم أقارب.

• مسنون يقولون إنه ليس لديهم في الغالب من يلجأون إليه عندما يحتاجون إلى المساعدة.


السجن أكثر متعة

السيدة (ن - 80 عاماً)، سرقت غلاف كتب عادياً، وسندويتشات، ومروحة يدوية، وارتكبت جنحة السرقة للمرة الثالثة، وحكم عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وشهرين، لديها زوج وابنان وستة أحفاد. تروي قصتها قائلة: «كنت أشعر كل يوم بالوحدة الشديدة، أعطاني زوجي الكثير من المال، وكان الناس يخبرونني دائماً كم كنت محظوظة، لكن المال لم يكن ما أردت، لأنه لم يجعلني سعيدة على الإطلاق».

وأضافت «كانت المرة الأولى التي سرقت فيها قبل نحو 13 عاماً. تجولت في متجر لبيع الكتب في المدينة، وسرقت رواية ذات غلاف عادي. تم القبض عليّ، واقتادوني إلى مركز للشرطة، واستجوبني أوسم ضابط شرطة، لقد كان لطيفاً معي، واستمع إلى كل ما أردت قوله، شعرت لأول مرة في حياتي أن أحدهم انتظر ليسمعني حتى النهاية، وربت بلطف على كتفي، وقال: أنا أفهم أنك وحيدة، لكن لا تفعلي هذا مرة أخرى».

وتابعت «لا أستطيع أن أخبركم كم أستمتع بالعمل في مصنع السجن. في اليوم التالي امتدحوا مدى كفاءتي ودقتها، أحسست بالسعادة في العمل. يؤسفني أنني لم أعمل قبل ذلك أبداً. كانت حياتي مختلفة». وتضيف «أنا أستمتع بحياتي في السجن أكثر مما كان عليه الحال خارجه، يوجد دائماً أشخاص حولنا، ولا أشعر بالوحدة هنا، وعندما خرجت للمرة الثانية، وعدت بألّا أعود، لكن عندما خرجت من السجن، لم أستطع مقاومة الشعور بالحنين للعودة اليه».

السيدة (تي 80) سرقت سمك القد، وبذوراً، ومقلاة. ارتكبت هذه الجنحة للمرة الرابعة، وحكم عليها بالسجن لمدة عامين ونصف العام، لديها زوج وابن وابنة. تقول: «عندما كنت صغيرة، لم أفكر في السرقة. كل ما فكرت فيه هو العمل بجد. عملت في مصنع للمطاط لمدة 20 عاماً ثم عملت كعاملة رعاية في مستشفى. كان المال شحيحاً دائماً، لكن لايزال يتعين علينا إرسال ابننا إلى الكلية». وتواصل روايتها قائلة: «أصيب زوجي بجلطة دماغية منذ ست سنوات، وأصبح طريح الفراش منذ ذلك الحين. يعاني أيضاً الخرف، ويعاني الأوهام وجنون العظمة. بذلنا الكثير لرعايته جسدياً وعاطفياً بسبب كبر سنه، لكنني لم أستطع التحدث عن ضغوطي مع أي شخص لأنني كنت أشعر بالخجل».

وأضافت «سُجنت للمرة الأولى عندما كان عمري 70 عاماً بسبب سرقتي من أحد المتاجر، كان لدي نقود في محفظتي في ذلك الوقت، لكنني فكرت في حياتي. لا أريد العودة إلى المنزل، ولم يكن لدي مكان آخر أذهب إليه، أدركت أن الدخول للسجن هو السبيل الوحيد. حياتي أسهل بكثير في السجن، يمكنني أن أشعر بنفسي وأتنفس».

مسنّون أنهوا فترة محكوميتهم لم يستطيعوا مقاومة الشعور بالحنين للعودة إلى السجن. أرشيفية


أسباب نفسية وليست اقتصادية

مدير مركز إعادة التأهيل «مع هيروشيما»، كانيشي يامادا، يعتقد أيضاً أن التغيرات التي حدثت في الأسر اليابانية أسهمت في موجة الجريمة الخاصة بالمسنين، لكنه يؤكد أن الامر يعود لأسباب نفسية وليست مالية. يقول: «تغيرت العلاقة بين الناس، وأصبح المسنون أكثر عزلة، لا يجدون مكاناً لهم في هذا المجتمع، ولا يمكنهم أن يتحملوا الوحدة»، ويعتقد بأن هناك الكثير من الاسباب التي تؤدي الى ذلك مثل فقدان الزوجة او الاولاد، حيث لا يستطيعون التكيف مع مثل هذه الظروف. ويعتقد ايضاً ان المسنين لا يرتكبون جرائم إذا كان هناك من يعتني بهم ويقدم لهم الدعم. ويعتقد ان ادعاء توشيو بانه دخل السجن نتيجة للفقر انما هو «مبرر» للحصول على الرفقة في السجن، لأن المشكلة تكمن في العزلة. صحيح أن توشيو يشعر بالوحدة، لأن والديه قد ماتا، وفقد الاتصال مع اثنين من اشقائه الأكبر سناً، الذين لا يردون على مكالماته، وفقد أيضاً اتصاله بزوجتيه السابقتين، اللتين طلقهما، وبأبنائه الثلاثة.

العزلة أهم مشكلات المسنّين في اليابان. أرشيفية

تويتر