بُني بذريعة الأمن ليحطم آمال آلاف العمال

«جدار العار» في عاصمة بيرو يفصـــــل الأغنياء عن الفقراء

صورة

«لقد جاؤوا ليلاً.. كانوا حشوداً من عمال البناء، معهم شاحنات الإسمنت، وترافقهم الشرطة لبناء الجدار الذي يهدف إلى عزل الأحياء الفقيرة».. هكذا تحدثت راكيل ياناك (38 سنة)، عن قصة تمييز طبقي تعود إلى عقود عدة، وهي تعيش حالياً مع أطفالها على حافة فجوة كبيرة، جنوب عاصمة بيرو، ليما.

يقع منزل عائلة ياناك، المتهالك، وسط بحر من الأكواخ الخشبية والمعدنية، التي تشكل الأحياء الفقيرة في المدينة، وعلى الجهة المقابلة يوجد «كاسواريناس»، وهو حي يتميز بفخامة مذهلة، وقصور بيضاء فاتحة وبرك سباحة، تبلغ مساحة إحداها ضعف حجم منزلها.

وتتذكر ياناك أنه في تلك الليلة، قبل ثلاثة عقود، علم السكان أن عليهم الرحيل، مضيفة: «في أسبوع واحد، بنوا الجدار بالكامل تقريباً، ولم يكن باستطاعة الناس فعل شيء حيال ذلك».

سرعان ما أصبح حاجز الخرسانة في ليما سيئ السمعة، وأُطلق عليه اسم «جدار العار»، وهو عبارة عن سور من الخرسانة طوله ستة أميال، يفصل أغنياء المدينة عن فقرائها. أما اليوم، فإن الحاجز الذي يبلغ ارتفاعه 10 أمتار، والذي تعلوه أسلاك شائكة، يمر من خلال أربع بلديات.

ويُقسم الجدار المناطق الفقيرة في سان خوان دي ميرافلوريس، بما في ذلك حي «فيلا ماريا ديل تريونفو»، حيث تعيش ياناك، عن المناطق الغنية، التي يقع فيها حي «كاسواريناس»، لقد غير الجدار الخرساني حياة وتصورات الناس على الجانبين، ويشهد على التباين الاقتصادي في ليما، الذي بات راسخاً في الثقافة البيروفية عبر العصور.

وتتابع ياناك: «ماذا أقول لأطفالي؟.. ابني البالغ من العمر ست سنوات يذهب إلى هناك للعب، وينظر حوله، والآن يسألني: (ماما، لماذا يوجد هذا الجدار هناك؟)».

لكن بناء الجدار لعزل جزء من المدينة عن «الآخر»، قد يتحول إلى ظاهرة شائعة في عالم يزداد استقطاباً، ويشبه إلى حد كبير الجدران الشهيرة الأخرى، بما في ذلك «جدران السلام في إيرلندا الشمالية»، والسور الذي أقامته إسرائيل على طول حدودها مع المناطق الفلسطينية، وجدار برلين، والسور على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. لقد أصبحت ليما رمزاً للانقسامات الاجتماعية الصارخة بالفعل.

تلال مهجورة

تقول بيلين ديميسون، وهي مهندسة معمارية بالجامعة الكاثوليكية في بيرو التي تقوم ببحث عن جدار ليما: «إنه جزء من هذا الاتجاه العالمي المتمثل في الجدران الفاصلة، وهذا الاتجاه متمثل في وضع هذا الحاجز المادي الفعلي بين مجموعتين اجتماعيتين، أو مجموعة عرقية».

كان جدار عاصمة بيرو رداً على موجة من الهجرة من المناطق الريفية في ثمانينات القرن الماضي، والتي نشأت بسبب العنف بين حكومة بيرو والعصابات الماوية.

واعتبر بعض الذين فروا إلى ليما أنها مجرد مكان للهروب من سفك الدماء؛ فيما رأى آخرون أنه مكان للفرصة، لكن دون أرض، استقر الكثير من المهاجرين المحليين في سفوح التلال المهجورة على حافة المدينة، وبنوا كتلة متزايدة من المستوطنات غير الرسمية، التي تمتد لعشرات الأميال.

كان والدا سوزانا غاليناس من بين الفارين من «أياكوتشو»، قلب العنف في جنوب بيرو، وتقول غاليناس: «رجال العصابات قتلوا أعمامنا وأبناء عمومتنا، خطفوا الصغار الذين تراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة لدفعهم إلى الإرهاب، كانوا يسرقون كل أموالنا تحت تهديد السلاح، ويغتصبون النساء».

في ليما، بنت عائلة غاليناس كوخاً صغيراً من الصفيح، وعلى الرغم من عدم وجود التيار الكهربائي أو مياه جارية، فقد كان المنزل آمناً.

كانت مناطق مثل «كاسواريناس» شرياناً اقتصادياً للمهاجرين مثل هذه العائلة، كل يوم، كان العمال يسيرون إلى الأحياء الراقية لتنظيف المنازل، وبناء المباني، فيما كانت والدة غاليناس تبيع الطعام، وبينما كانت والدتها تقدم وجبات الغداء في مواقع البناء، لعبت سوزانا في الحدائق المورقة بعيداً عن حيها، لكن مع استمرار تدفق الهجرة إلى ليما، قال غاليناس إن الخوف والاشمئزاز تغلغلا إلى الأماكن التي يعملان بها، وينظرون إليهم كما لو كانوا لصوصاً، يريدون السطو على منازلهم.

دعم رسمي

بدأ بناء الجدار عام 1985، عندما أحاطت أكاديمية تعليمية خاصة للنخبة في منطقة «سيركو» المبنى بأسوار عالية، وقال مسؤولو المدرسة، حينها، إن الحواجز تؤمن المؤسسة ضد مستوطنات المهاجرين المتزايدة.

بعدها بفترة قصيرة، بدأ سكان «كاسواريناس» القريبون بناء جدارهم الخاص، مدعين، أيضاً، أن الجريمة تأتي من الجانب الآخر، وعلى مدى ثلاثة عقود، وسّع السكان الأكثر ثراءً هذا الجدار بإذن من السلطات المحلية، وأحضروا معهم الشرطة في بعض الحالات.

ورفضت جمعية حي «كاسواريناس»، التي تقف وراء الجدار الأصلي، مقابلة الصحافيين، مدعية أن جميع مسؤوليها خارج ليما في إجازة، ومع ذلك ادعى السكان الأغنياء أن الجريمة في حيهم قد انخفضت بعد بناء السور.

وسرعان ما أصبح من المستحيل على سوزانا غاليناس ووالدتها العمل على الجانب الآخر، فللعبور إلى هناك سيتعين عليهما السير لمدة ساعتين حول الحائط، أو دفع نصف أجر اليوم لركوب الحافلة.

وتقول ابنة غاليناس إنها تحلم باللعب في الحدائق نفسها، كما كانت والدتها تفعل، لكن الطفلة البالغة من العمر ثماني سنوات، لم وربما لن تعبر إلى الجانب الآخر طيلة حياتها، على الرغم من أن العمال لايزالون يقومون بالرحلة، فإن البعض يغادر المنزل في الساعة الخامسة صباحاً، للوصول إلى أماكن عملهم، في حين لا تتجاوز المدة 15 دقيقة، في غياب الجدار.

هكذا يرون الآخر

عاشت باتريشيا نوفوا (61 عاماً)، التي تقود سيارة حديثة، في حي «كاسواريناس» نصف عمرها، وكانت مؤيدة لبناء الجدار، والسبب هو «الأمن». وأوضحت نوفوا أنه على الرغم من أنها لم ترَ الجانب الآخر منذ سنوات، فإن «الناس في أماكن مثل (سان خوان دي ميرافلوريس)، يعيشون أسوأ من الحيوانات، إنهم مجرمون ولصوص، لأنهم يجب أن يكونوا كذلك؛ إذ ليست لديهم أي وظائف أخرى»، بحسب وجهة نظرها.

ترى نوفوا، أيضاً، أن «الناس المهمشين يتحولون إلى مهاجمين، هذه هي الحقيقة، ليست لديهم وسيلة للعيش، إنهم يعيشون في هذه البيئة، وليس لديهم تعليم». بالنسبة للكثيرين الآخرين، الذين تحدثت معهم «ذي أتلانتك»، في الشوارع وعلى أبواب قصورهم، كان رد فعلهم أنهم تساءلوا: «أي جدار؟».

الخوف من المجهول في بيرو

يعيش نحو 6.9 ملايين تحت خط الفقر في بيرو (يتقاضون أقل من 102 دولار شهرياً). وأفاد تقرير بأن 20% من السكان يجنون ما يقرب من نصف الدخل القومي، وفي حين تتقاسم الطبقتان المتوسطة والفقيرة النصف الباقي، تظل شريحة من المجتمع تحت المستوى بكثير.

وقالت بيلين ديميسون، المهندسة المعمارية، إن الجدار يوسع تلك الفجوة، ويخلق الخوف من المجهول من خلال الفصل المادي.

وتابعت: «هناك فكرة وراء الجدار، يقال إنها تخلق مجموعات اجتماعية متجانسة، إذا كنت تبني حائطاً أو تضع سياجاً حول الحي، فأنت تُظهر أن هناك مجتمعاً متماسكاً، لا يوجد عنده أي نوع من الحوار مع الآخر».

وقد تجسدت هذه الفكرة في جميع أنحاء العالم. في حالة الضفة الغربية، بنت إسرائيل جداراً يفصل بينها وبين المجتمعات الفلسطينية، واصفة إياه بأنه «إجراء حماية».

وعلى الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، جاء تنفيذ الرئيس دونالد ترامب البطيء لتعهده ببناء جدار حدودي «كبير وجميل»، في ظل حملة صارمة على الهجرة واللاجئين.

وتمتد منازل «كاسواريناس» الفارهة في أعالي الجبل، وتم تزيينها بالحدائق والمسابح، مع مجموعات من السيارات المتوقفة على الممرات الطويلة.

وفي وقت مبكر من الصباح، يمشي العمال من المناطق الفقيرة في «سان خوان دي ميرافلوريس» و«فيلا ماريا ديل تريونفو»، على طول السور إلى المداخل المزينة والمغلقة، ويتم تجاهلهم حتى يصلوا إلى نقطة التفتيش، التي يتعين عليهم المرور من خلالها لدخول «كاسواريناس».

تراجع الآمال

ليلي ماماني رايس (33 عاماً)، عاملة نظافة بالحي الراقي، يتم تذكيرها كل صباح عندما تستيقظ في الساعة الخامسة، لتبدأ رحلتها التي تستغرق ساعتين ونصف الساعة للعمل.

تترك ليلي منزلها، الذي يتكون من غرفة واحدة من الخشب، حيث تكافح للحصول على المياه النظيفة، وتقضي يومها في تنظيف المنازل ذات المسابح الكبيرة والحدائق، وتعتني بالحدائق. تقول عاملة النظافة إنها كانت تتقاضى نحو 15 دولاراً يومياً، لكن بسبب الزيادة الأخيرة في عدد المهاجرين من فنزويلا، الذين وصلوا إلى ليما، خفض صاحب العمل أجرها إلى النصف، وهو مبلغ بالكاد يكفيها.

تقول ليلي: «ليست لديَّ وسائل الراحة التي لديهم، لماذا لديهم هذه الملابس وأنا لا؟ لا يمكنني ارتداء أنواع الملابس وأنواع الأحذية التي يرتدونها.. لا أستطيع تحمل هذه الأنواع من الكماليات».

جاءت ليلي إلى ليما في الـ15 من عمرها، مع آمال بالتعليم، وحياة أفضل من تلك التي تركتها في مزرعة صغيرة، لكن بينما تنظر إلى الأفق غير المحدود من الأحياء الفقيرة المغطاة بالضباب، لا ترى سوى أن الجدار قد حطم تلك الطموحات، تاركاً وراءه ما يمكن أن تصفه فقط باسم «العار». وتابعت: «هذا ليس المكان الذي يمكن فيه التقدم، هذا جدار العار على بيرو».


20 % من سكان بيرو

يجنون ما يقرب من

نصف الدخل القومي.

تويتر