أنفقت ملايين الدولارات في تنظيم مؤتمرات علمية «زائفة»

الاستخبارات المركزية تجند العلماء النوويين المنشقين والأكاديميين سـراً

صورة

من أجل إغراء واستدراج علماء نوويين، من دول مثل إيران أو كوريا الشمالية للانضمام إليها، ترسل وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه) عملاءها بشكل روتيني لمؤتمرات أكاديمية، أو تنظم مؤتمرات وهمية خاصة بها، وتدعو إليها مثل هؤلاء العلماء. وبعد الخطابات الرئيسة والمناقشات الجماعية والعشاء، يذهب المشاركون في المؤتمر للاستراحة في غرف الفندق الذي يقيمون فيه، وفي هذه اللحظة بالذات تخضع غرفهم للمراقبة بالصوت والصورة. ففي أحد هذه المؤتمرات أظهرت عمليات المراقبة الصوتية والمرئية لإحدى الغرف أن أحد العلماء النوويين من الحرس الثوري التابع للجمهورية الإيرانية كان نائماً، لكنه لم يكن مستغرقاً تماماً في النوم. ووفقاً لشخص على اطلاع بهذا اللقاء، والذي حدث منذ عقد من الزمان، كانت الـ«سي آي أيه» تعد العدة لهذا المؤتمر لأشهر من خلال واجهة أعمال تجارية، وقامت بتمويله وتنظيمه في مركز أجنبي للبحوث العلمية لا يثير الشبهات، ودعت إليه متحدثين وضيوفاً، وزرعت نشطاء بين العاملين في المطبخ وغيرهم من طواقم المؤتمر، وفعلت كل ذلك فقط لاستقطاب الخبير النووي وهو خارج بلاده، وإبعاده لبضع دقائق عن حراسه، وكادت الخطة أن تخرج عن مسارها في اللحظة الأخيرة نتيجة لإحدى العقبات، فقد غير هذا الهدف فندقه، لأن كلفة الفندق الذي اختاره المؤتمر كانت تزيد بمقدار 75 دولاراً على الكلفة التي حددها له رؤساؤه في إيران.

ولإظهار إخلاصه وحسن نيته، وضع عميل الـ«سي آي أيه» المكلف بتجنيد العالم الإيراني يده على قلبه، وخاطب العالم الإيراني، قائلاً: «السلام عليك يا أخي، أنا من الـ(سي آي أيه)، وأريدك أن تستقل طائرة معي إلى الولايات المتحدة». واستطاع العميل، خلال هذه اللحظة القصيرة، قراءة ردود الفعل على وجه العالم الإيراني: مزيج من الصدمة والخوف والفضول، فمن خلال خبرته السابقة في استقطاب المنشقين، كان العميل يدرك أن آلاف الأسئلة كانت تدور في ذهن العالم: ماذا عن عائلتي؟ كيف ستوفر لي الحماية؟ أين أعيش؟ كيف أتلقى الدعم؟ كيف أحصل على تأشيرة؟ هل هناك وقت للتراجع؟ ماذا يحدث إذا قلت لا؟ وبدأ العالم بالفعل بطرح أحد الاسئلة، إلا أن العميل قاطعه بقوله «احمل أولاً سطل الثلج». وسأله العالم: «لماذا؟»، فرد عليه: «إذا استيقظ أيٌّ من حراسك، فيمكنك إخباره بأنك تريد جلب بعض الثلج».

وخلال عمليات التجنيد الأكثر جرأة، التي ينظمها عملاؤها في الأوساط الأكاديمية، تنفق الـ«سي آي أيه» سراً ملايين الدولارات في تنظيم مؤتمرات علمية حول العالم، الغرض منها استدراج العلماء النوويين الإيرانيين للخروج من وطنهم، لكي يستطيع عملاء المخابرات الأميركية الاتصال بهم بشكل فردي والضغط عليهم من أجل الانشقاق عن أنظمتهم. وبعبارة أخرى، ظلت الوكالة تسعى لإعاقة إيران عن تطوير أسلحتها النووية، عن طريق تجفيف مواردها من الكوادر العلمية من خلال هذه المؤتمرات الأكاديمية الزائفة، وفوق ذلك خدعت الـ«سي آي أيه» المؤسسات التي استضافت هذه المؤتمرات والأساتذة الذين حضروا وتحدثوا فيها. ولم يكن لدى الأشخاص الذين حضروا المؤتمرات أي فكرة عن أنهم كانوا يعيشون في دراما تحاكي الواقع تدار من على بعد. ولا أحد يدري ما إذا كانت مهمة الأمن القومي تبرر هذا التلاعب بالأساتذة والعلماء، لكن هناك قليل من الشك في أن معظم الأكاديميين قد رفضوا أن يكونوا طعماً في مخطط وكالة الاستخبارات المركزية. ويبرر أحد المسؤولين بالـ«سي آي أيه» ذلك بأن «جميع أجهزة الاستخبارات في العالم تنظم المؤتمرات وترعاها، وتبحث عن طرق لجلب العلماء إليها».

عملية إغرائية

يقول كبير الباحثين في معهد العلاقات الدولية في براغ والمستشار الخاص السابق لمكتب الشؤون الخارجية البريطانية، مارك غاليوتي: «التوظيف في الاستخبارات عملية إغرائية طويلة»، ويمضي قائلاً «المرحلة الأولى هي الترتيب لاستقطاب الهدف لورشة العمل، حتى لو كانت هذه الورشة لمجرد الحديث في أمور لا قيمة لها، وفي الخطوة التالية يمكنك أن تقول للهدف مثلاً يبدو أنني التقيتك من قبل في إسطنبول؟».

ونبه مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) الأميركيين الأكاديميين في عام 2011 إلى توخي الحذر بشأن المؤتمرات، مستشهداً بهذا السيناريو: «تلقت باحثة دعوة لتقديم ورقة لمؤتمر دولي، فقبلت الدعوة، وخلال المؤتمر طلب منها المضيفون نسخة من الورقة التي ستقدمها وفي غفلة منها زرع المضيفون جهاز تنزيل بجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها، من دون علمها، وقاموا بتنزيل جميع ملفاتها ومصدر بياناتها». ويتسلل كل من الـ«إف بي آي»، والـ«سي آي أيه» داخل جميع التجمعات بالولايات المتحدة، ويبرر عميل سابق من الـ«إف بي آي» ذلك بقوله: «ضباط المخابرات الأجنبية يحاولون استقطاب الأميركيين، ونحن نحاول استقطاب العلماء الأجانب». وتشارك الـ«سي آي أيه» في المؤتمرات بطرق مختلفة، فهي ترسل ضباطها إلى تلك المؤتمرات؛ وتستضيف المؤتمرات والتجمعات مستخدمة واجهة شركات تجارية في واشنطن، لكي تتمكن من الدخول في مجتمع الاستخبارات الأجنبية، والاستفادة من الخبراء الأكاديميين، كما أنها تنظم مؤتمرات زائفة للوصول إلى منشقين محتملين من الدول المعادية.

وتراقب الـ«سي آي أيه» المؤتمرات في جميع أنحاء العالم، وتحدد تلك التي تهمها. لنفترض أن هناك مؤتمراً دولياً في باكستان حول تقنية الطرد المركزي، ستقوم الـ«سي آي أيه» بإرسال عميلها الخاص، أو تجند أستاذاً قد يكون على استعداد ليقدم لها التقارير، فإذا علمت أن هناك عالماً نووياً إيرانياً حضر المؤتمر، فإنها قد تعد العدة لتجنيده في مؤتمر العام التالي.

صياغة السياسة

إن المعلومات الاستخبارية المستقاة من المؤتمرات الأكاديمية يمكن أن تساعد على صياغة السياسة، فقد ساعدت مثل هذه الاستخبارات في إقناع إدارة الرئيس السابق، جورج دبليو بوش - بشكل مأساوي، كما تبين في ما بعد - بأن الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، لايزال يطور أسلحة دمار شامل في العراق. وكتب ضابط مكافحة الإرهاب السابق في الـ«سي آي أيه»، جون كيرياكو في مذكراته عام 2009 إن «ما لاحظه جواسيسنا ومخبرونا، بطبيعة الحال، هو أن العلماء العراقيين المتخصصين في الكيمياء، والبيولوجيا، وبدرجة أقل، في الطاقة النووية، ظلوا يظهرون بشكل مستديم في الندوات الدولية». ويمضي قائلاً «ويقدمون أوراقهم، ويستمعون إلى محاضرات الآخرين، وينقلون ملاحظات غزيرة عنهم، ثم يعودون إلى بلادهم براً».

وقد يكون بعض هؤلاء الجواسيس قد استخلصوا استنتاجات خاطئة، لأنهم يفتقرون إلى درجات متقدمة في الكيمياء أو البيولوجيا أو الطاقة النووية. ومن دون خبرة، قد يسيء العملاء فهم الموضوع، أو يلجؤون للتزوير. وفي مؤتمرات استضافتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، حول موضوعات مثل هيدرولوجيا النظائر والطاقة الاندماجية، «ربما يكون هناك ضباط استخبارات يتجولون في الممرات أكثر من العلماء الفعليين»، كما يقول العميل السابق للـ«سي آي أيه»، جين كويل، الذي عمل لهذه الوكالة منذ عام 1976 إلى عام 2006، ويمضي قائلاً إن «هناك مشكلة واحدة بسيطة، هي أنه إذا كانت الـ(سي آي أيه) سترسل شخصاً لحضور أحد هذه المؤتمرات، فعليه أن يقدم محاضرة في هذا المؤتمر، ومن الصعب إرسال شخص من دون خبرة في موضوع المؤتمر، نعم، أنا لديّ درجة دكتوراه في فيزياء البلازما مثلاً، هذا عالم صغير جداً، فإذا زعمت أنك من معهد فيرمي في شيكاغو، فسيقول لك بعض المشاركين: لابد أنك تعرف بوب، وفريد، وسوزي». وبدلاً من ذلك، يقول كويل «ينبغي أن تجند الـ(سي آي أيه) بروفيسوراً مناسباً من قسم الموارد الوطنية التابع لها، حيث تكون لهذا البروفيسور (علاقة عمل) مع عدد من العلماء». ويسترسل «فإذا أرادوا الاشتراك بمؤتمر في فيينا، فإنهم سيقولون: البروفيسور سميث، يبدو أنه شخص مناسب للاشتراك في المؤتمر».


المعلومات الاستخبارية المستقاة من المؤتمرات الأكاديمية يمكن أن تساعد على صياغة السياسة.

تراقب الـ«سي.آي. إيه» المؤتمرات في جميع أنحاء العالم وتحدّد تلك التي تهمها.

التوظيف في الاستخبارات عملية إغرائية طويلة، المرحلة الأولى هي الترتيب لاستقطاب الهدف لورشة العمل، حتى لو كانت هذه الورشة لمجرد الحديث في أمور لا قيمة لها، وفي الخطوة التالية يمكنك أن تقول للهدف مثلا يبدو أنني التقيتك من قبل في اسطنبول!

تويتر