في الذكرى الـ 70 للنكبة

فلسـطين لم تعـد مجرّد قطعة أرض بل معركة دائمة من أجل العدالــــــة

صورة

النكبة ليست مجرّد تاريخ لإحياء ذكرى الكارثة التي ألمّت بالفلسطينيين كلما أطلّ 15 مايو من كل عام، بل هي أكثر شمولاً من مجرد حدث واحد، ومهما كان ما يحمله إحياء ذلك التاريخ في طياته من مآسٍ، فإنه يمثل التطلع إلى الحياة والعيش الكريم، الذي حرم منه الملايين من الفلسطينيين بشكل غير عادل في كل يوم يمر على وجه البسيطة، والذين يعيشون الآن حياة العوز والنفي والجور. وهكذا أصبحت النكبة، بطريقة ما، جزءاً من الهوية الجماعية لجميع الفلسطينيين. وصارت متأصلة في وعيهم الجماعي، ومن المستحيل تصور مستقبل سلمي حقيقي دون معالجة الجريمة الأصلية بشكل عادل ودقيق.

حكايات موثقة يرويها الكاتب والمفكر الفلسطيني الأصل، الأميركي الجنسية، رمزي بارود، عن فلسطينيين عانوا التشرد والاضطهاد والذل والمهانة. ويبدأ بالحديث عن نفسه وجدّه.

حكاية جدّي

«على الرغم من أنني ولدت وترعرعت في معسكر للاجئين في غزة، ثم نزحتُ في ما بعد للولايات المتحدة، فمازلت أنتمي بقوة لقرية تم محوها من على الخريطة قبل عقود، ولكن ستظل قرية بيت دراس بالنسبة لي أهم قطعة أرض على هذا الكوكب.عندما كنت طفلاً تعلمت من جدي أن أشعر دائماً بالفخر والكرامة. كان فلاحاً وسيماً وقوياً، لا يتزعزع إيمانه بالله وبأرضه. نجح في إخفاء حزنه العميق بعد أن تعرض للطرد من منزله في فلسطين مع كل أسرته. وعندما طعن في السن كان يجلس لساعات بين كل صلاة وأخرى، يبحث في ذاته عن ذكريات الماضي الجميلة. وكثيراً ما كان ينفث آهات حزينة، وتتدحرج على خده بضع دمعات، لكنه على الرغم من ذلك لم يقبل بالهزيمة، ولم تنمحِ عن ذاكرته حقيقة ضياع قرية بيت دراس».

وصية لم تتحقق

في نهاية حياته، كانت رغبة جدّي الوحيدة هي أن يتم دفنه في بيت دراس، ولكن بدلاً من ذلك، كان حظه أن يقيم في مقبرة مكتظة بمخيم النصيرات للاجئين. ومع ذلك، فقد بقي بيدرساوياً حتى النهاية، نسبة إلى بيت دراس، كما كان يطلق عليه أهل القرية، متعلقين بشدة بذكريات ذلك المكان، الذي ظل بالنسبة له - وبالنسبة لنا جميعاً - مقدساً وحقيقياً. وبالنسبة لملايين اللاجئين، ولآلاف المحتجين على حدود غزة، لم تعد فلسطين مجرد قطعة أرض، بل معركة دائمة من أجل العدالة، وباسم أولئك الذين استشهدوا على طول مسارات المنفى المتربة، وأولئك الذين لم يولدوا بعد.


• بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين بشكل جدّي في عام 1881، عندما اختار قادة الحركة الصهيونية في أوروبا فلسطين العربية، لتصبح موطناً حصرياً لليهود، ولم يهتموا أبداً بالسكان الأصليين في الأرض.

بعد مرور 70 عاماً على النكبة، لاتزال ساحة المعركة موجودة، وتحددت بشكل صارخ على حدود غزة، حيث يستمر عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في التجمع، لينظموا مسيرة العودة العظيمة، التي بدأت في 30 مارس، وبلغت ذروتها يوم الثلاثاء 15 مايو. وعلى طرفي هذه المعركة المستمرة، درج الفلسطينيون والإسرائيليون على الحفاظ على إرث يمتد لعقود من الزمن: فالشباب الفلسطيني مستمر في إدامة الكفاح نفسه، الذي تبنته أجيال من الفلسطينيين منذ بداية النكبة، والجيش الإسرائيلي - الذي قتل العشرات وجرح الآلاف في الأسابيع الأخيرة - يطبق السياسات الدموية نفسها، التي نفذتها العصابات الصهيونية عندما طهرت عرقياً مواطني فلسطين عام 1948.

ويبدو الأمر كما لو أن الوقت لايزال ثابتاً في مكانه لا يغادره، أو أن التاريخ قد أعاد إنتاج نفسه بنمط أكثر عمقاً. ولكي يحدث التغيير، هناك حاجة ملحة إلى نقلة نوعية، ولا يمكن أن يستمر هذا الواقع المأساوي والعنيف إلى الأبد.

كتاب بارود: «الأرض الأخيرة: قصة فلسطينية»، يستعرض صيغة جماعية للنضال الفلسطيني، تتمحور حول النكبة، والتي تعني تدمير الوطن الفلسطيني في عام 1948، وتشريد ملايين الفلسطينيين الذين تحولوا إلى لاجئين، وظلوا يعيشون في المنفى منذ ذلك الحين.

إخفاء الحقيقة عن قصد

خلال الانتفاضة الأولى في عام 1987، نفذ الجيش الإسرائيلي ما وصفه سكان مخيم جباليا للاجئين في غزة بـ«مذبحة العيد»، والتي راح ضحيتها أربعة شبان في المخيم، بمن في ذلك صديق طفولتي رائد مؤنس. حدث ذلك في اليوم الأول من عطلة المسلمين. وبعد دفن الشبان وخلال حزننا عليهم في منزلنا المتواضع بمعسكر اللاجئين، ظل والدي يدير مؤشر الراديو بخيبة أمل واضحة في محاولة للعثور على أي بث إخباري للمذبحة، في أي مكان من العالم، ولم تذكر اذاعة واحدة الأحداث الرهيبة التي وقعت في مخيمنا في ذلك اليوم. عندها أدركت أن ما حدث ويحدث في حاجة ملحة لروايته للعالم. ومع مرور الوقت، فهمت أيضاً أن مخيمنا كان نموذجاً مصغراً لظاهرة أكبر، يتم فيها تهميش الخطاب الفلسطيني بشكل متعمد، ولا تجد أصوات الفلسطينيين من يسمعها عن قصد. ومنذ ما يقرب من 25 عاماً، أقوم برحلة لاستعادة سرد حكايات فلسطين، بالنيابة عن جيراني وأصدقائي وشعبي.

حكاية تقديس حق العودة

يروي الكتاب قصة الفلسطيني، أحمد الحاج، شيوعي عجوز يعيش في غزة، نزح عن فلسطين عام 1948، عندما تعرضت قريته «الصوافر» للهجوم، ثم أشعلت فيها الميليشيات اليهودية النيران، هذه الميليشيات شكلت في ما بعد الجيش الإسرائيلي. وحتى هذا اليوم، يرفض الحاج، البالغ من العمر 85 عاماً، بناء منزل في قطاع غزة المحاصر. «تحدثت إلى الحاج وأجريت معه سلسلة من المقابلات عن اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين والشرق الأوسط وحول العالم، لمحاولة فهم سبب تقديسهم لـ(حقهم في العودة) إلى ديارهم، التي طردوا منها هم أو أسلافهم، قبل 70 عاماً. لا يملك الحاج منزلاً في غزة، لأنه يخشى إن حصل على منزل فسيستسلم عن الكفاح ويرضى بمنفاه، وأمضى سنوات عدة في سجن إسرائيلي لرفضه الرضوخ للنفي الى غزة. طوال حياته، ظل الحاج يفكر في (الصوافر)، ويروي قصصاً عن عائلته، لأي شخص يرغب في الاستماع اليها: حياتهم السعيدة قبل المنفى، والألم والحسرة في ما بعد. المشاعر نفسها تتردد في خاطر معظم الفلسطينيين، حتى أولئك الذين ولدوا بعد النكبة. تحدثت إلى الشباب الذين يشعرون بالارتباط العميق بالقرى التي اختفت جميعاً، قبل وقت طويل من ولادتها».

حكاية الاستيطان الدموي

بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين بشكل جدي في عام 1881، عندما اختار قادة الحركة الصهيونية في أوروبا فلسطين العربية، لتصبح موطناً حصرياً لليهود، ولم يهتموا ابداً بالسكان الأصليين في الأرض. بلغت هذه الطموحات المبكرة ذروتها في حملة إرهابية دموية، ولكن منسقة جيداً بين 1947-1948، ما أدى إلى قيام دولة إسرائيل فوق أنقاض فلسطين. تم تدمير ما يقرب من 600 بلدة وقرية ومحليات فلسطينية، لتوفير مساحة لدولة يهودية حصراً. ومنذ ذلك الحين، تم تغيير الأسماء والعناوين. فالميليشيات الصهيونية التي نسقت الإبادة الجماعية للفلسطينيين قبل إنشاء إسرائيل، اندمجت معاً لتشكيل الجيش الإسرائيلي، وأصبح قادة هذه العصابات قادة إسرائيل.

تويتر