تدهور سياسي وانهيار للنظم الأخلاقية والإنسانية

حضارة أميركا والثقافات الغربية تواجه أزمة وجودية

صورة

عندما خرج السياسي الأميركي بنيامين فرانكلين، من اليوم الأخير للمؤتمر الدستوري في ولاية فيلادلفيا، سألته إحدى النساء التي كانت تقف مع الجمهور، «ما الذي لدينا الآن.. هل سنكون مملكة أو جمهورية؟»، فأجابها ذلك الجواب الشهير بالقول «جمهورية سيدتي إذا استطعتم الحفاظ عليها»، وكان يشير فرانكلين ضمنياً في جوابه التحذيري إلى الاعتراف بأن إنشاء حكم جديد على نحو غير مستقر على أرض تبدو بحجم قارة هو شيء، والمحافظة عليه وتطويره شيء آخر مختلف تماماً، ويمثل تحدياً كبيراً. ومن هذه البدايات المترددة والهشة، ستنمو الجمهورية الفتية لتصبح بعد أقل من قرنين قوة عظيمة عسكرياً واقتصادياً، والمهندس الرئيس للنظام الذي يسير عليه العالم الذي يوفر إطاراً مستقراً لمرحلة ستشهد تقدماً غير مسبوق للرفاهية المادية للشعوب في شتى أنحاء العالم.

ولكن هذه الأيام يواجه هذا النظام العالمي سلسلة متزايدة من العقبات والأزمات بالغة الخطورة، من حيث طبيعتها، حيث تحمل هذه الأزمات تهديداً وجودياً لهذا النظام.

والدليل على هذا الخطر هو المقالة التي نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال، للكاتب والتر راسل ميد، بعنوان «القوانين التي يستند إليها النظام العالمي تتفكك بهدوء»، حيث قال الكاتب إن «المؤسسات والمبادرات الأساسية للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والحكومات التي تدعمها، أصبحت تزداد ضعفاً وانخفضت أهميتها بصورة تدريجية»، ويصف ميد على سبيل التوضيح دعائم القانون العالمي المترنحة، بما فيها الأمم المتحدة التي يصيبها الشلل بصورة متزايدة، إضافة إلى المحكمة الدولية التي أصبحت لا أهمية لها، كما أن منظمة التجارة العالمية أصبحت بلا حول ولا قوة، واختفت جهود الحد من التسلح، إضافة الى جمود واضح في حرب أوكرانيا وانتشار للفوضى على نحو متسارع في دول جنوب الصحراء في القارة الإفريقية.

واختتم ميد مقالته بالقول إن المدافعين الغربيين عن النظام العالمي «الذي يقوضه الانحطاط السياسي والتدهور المؤسسي من الداخل» يواجهون أزمة وجودية لم ير العالم مثيلها منذ ثلاثينات القرن الماضي.

ولمزيد من الاستكشاف في فكرة الانحطاط والتدهور الداخلي، ثمة مقالة أخرى في وول ستريت جورنال، بعنوان «النظام الأخلاقي انهار فعلاً»، للكاتب جيرالد بيكر. ووصف هذا الكاتب هجوماً قاتلاً ثلاثي الأبعاد، على القيم، والتاريخ والأسس الأخلاقية للحضارة الغربية، والذي تم تنفيذه خلال العقود الثلاثة المنصرمة، من قبل عناصر ذات ميول يسارية في بعض مؤسسات المجتمع، مثل وسائل الإعلام، والمعاهد التعليمية والمنظمات غير الحكومية.

ويرى بيكر أن البعد الأول لهذا الهجوم هو التأكيد على «الأسبقية الأخلاقية للالتزام العالمي على المصلحة الذاتية الوطنية»، وأكثر الأمثلة توضيحاً لذلك هو « تسونامي اللاجئين»، الذي يغمر الآن أماكن مثل جزر لامبدوسا الإيطالية أو المدن الحدودية في ولاية تكساس، مع ما يصاحب ذلك من مطالب مفادها أن الدول المستقبلة لهؤلاء الناس يجب أن تضع أولوياتها في حاجة هؤلاء القادمين، وتفضلها على مواطنيها.

والبعد الثاني هو الاعتقاد أن «الكارثة المناخية» التي تسببها الدول المتطورة في الغرب، يجب معالجتها عن طريق «التضحية الكبيرة بالتقدم الاقتصادي الواسع»، ويتطلب البعد الأخير «إلغاءً واسعاً لكل ما هو ثقافي ذاتي» من القيم، والفضائل والإنجازات الحضارة التقليدية، واستبداله بنظام هرمي ثقافي يطالب بالخضوع لـ«تعويضات اقتصادية واجتماعية شاملة».

وعلى الرغم من اعتراف بيكر بالأضرار الضخمة التي أصابت الأنظمة الاقتصادية الغربية، والثقة الذاتية، والتلاحم الاجتماعي خلال ثلاثة عقود من التأثير السلبي للتيار اليساري، فإنه يشير إلى أن الجهود المبذولة لفرض «نظام أخلاقي جديد»، وإعادة هندسة المجتمع كي ينسجم مع الضرورات الأيديولوجية اليسارية، التي فشلت الآن نتيجة التناقضات الداخلية، والجنون الاقتصادي الواضح، والرفض والمقاومة من طرف العديد من الأشخاص الذين باتت مصالحهم المادية والأخلاقية تتعرض للاعتداء.

وذكر بيكر مثالاً على هذه الثورة الشعبية في الغضب الوطني الأخير، بشأن التزام الحكومة البريطانية إلغاء استخدام السيارات التي تعمل بالبترول، كي تحقق الحياد في انبعاثات غاز الكربون بحلول عام 2050، والتي دفعت رئيس الحكومة ريشي سوناك، إلى انسحاب مهين من هذا الجدول الزمني غير الواقعي. وهذا بدوره، أثار انتقادات من ناشطي المناخ حول العالم.

وثمة مثال آخر، هو مقاومة بعض الأستراليين للاستفتاء الوطني المزمع إجراؤه، الذي يطلب من الشعب الأسترالي أن يوافق على إعادة كتابة دستوره، بحيث يكون هناك جزء مخصص للحكومة من أجل تقديم النصح لأعضاء مجلس النواب حول حاجات السكان الأصليين.

ومن الواضح أن ظاهرة التراجع ليست أعراضاً أميركية بحتة، وإنما هي أكثر انتشاراً في العالم. والمحيطات التي اعتقد فرانكلين ومعاصروه أنها يمكن أن تعزل العالم الجديد عن كوارث العالم القديم، لم تعد كافية للقيام بهذا الغرض. والأمر غير الواضح الآن، هو ما إذا كان الوعي والمقاومة الناشئان كافيين لإبعاد أو حتى وقف التغيرات الثقافية الزاحفة التي ربما تخدم النخب الأيديولوجية، ولكنها تؤدي إلى جلب الفقر المادي والروحي للجميع.

• ظاهرة التراجع ليست أعراضاً أميركية بحتة، وإنما هي أكثر انتشاراً في العالم. والمحيطات التي اعتقد فرانكلين ومعاصروه أنها يمكن أن تعزل العالم الجديد عن كوارث العالم القديم، لم تعد كافية للقيام بهذا الغرض.

■ ويليام مولوني أستاذ التاريخ والسياسة في جامعة كولورادو كريستيان

 

تويتر