بسبب «عمى الألوان» السياسي
الفصل العنصري في فرنسا لايزال يراوح مكانه كما الحال في أميركا
في أواخر التسعينات، عندما كنت مراسلاً لصحيفة نيويورك تايمز في غرب إفريقيا، جعلت من الهبوط في المطارات الفرنسية طقوساً لي للعمل والاستمتاع بالعطلة. وفي إحدى هذه الزيارات، تلقيت صدمة قوية عندما اقتربت من محطة مترو أنفاق ليست بعيدة عن الشانزليزيه، عندما شاهدت رجلي شرطة يشهران مسدسيهما بينما كانا يلاحقان شاباً أسود قبضا عليه فيما بعد، وعاملاه بشكل سيّئ، ثم وضعاه قيد الاعتقال.
باعتباري شخصاً نشأ في واشنطن العاصمة، وانتقل أخيراً إلى إفريقيا من مدينة نيويورك - أو ببساطة كشخص شاهد البث الإخباري المحلي في الولايات المتحدة وكبر وهو يشاهد أحداث بلاده العنيفة على الشاشات الصغيرة والكبيرة – فقد نشأت على اعتقاد أن مثل هذه المشاهد حصرية على بلدي.
في رحلاتي العابرة لاحقاً لباريس، بدأت أركب القطارات إلى وسط المدينة بدلاً من سيارات الأجرة. ربما ما دفعني إلى ذلك أحد الإضرابات العمالية، لكن هذه التجربة أثارت اهتمامي لدرجة أنني بدأت في التعود عليها. ولم أشعر حتى في نيويورك بمثل هذه الفجوة بين الصورة الشائعة للمدينة وهذا النوع من التجربة الحية التي شاهدتها عبر وسائل النقل العام. فخلال معظم جولاتي كنت أشاهد سيارات مملوءة بأشخاص ذوي بشرة سمراء وبنية، وكان أغلبهم من الشباب، وتوقعت أن يكونوا إما أطفال المهاجرين الجدد أو المهاجرين أنفسهم، الذين نشؤوا في المستعمرات الفرنسية السابقة في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. وبعد وصولهم إلى أرض الأحلام الحضرية الأنيقة التي عززها عدد لا يحصى من خيالات هوليوود الرومانسية وأكثر من قرن من الروايات وكتابات الرحلات، اكتشف هؤلاء المهاجرون شيئاً مختلفاً ومتنافراً تماماً: مساحة شاسعة مما يصفه الفرنسيون بدقة إلى حد ما على أنه ضواحي. ومع ذلك، لم يكونوا بحاجة إلى اللجوء إلى مثل هذا المصطلح. فبالنسبة للعديد من هذه الأماكن، كانت الكلمة الأوروبية القديمة «غيتو» هي المناسبة تماماً.
بالمرور عليها وزيارة بعضها في النهاية، تذكرت مناظر ضواحي مشابهة عرفتها في أجزاء أخرى من العالم. من المسلم به أن المقارنات ليست مثالية، ولكن تبادر إلى ذهني البلدات المعزولة التي تم بناؤها في ظل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وأيضاً الأحياء الكئيبة في نيويورك التي زرتها كمراسل محلي، مثل أحياء برونكس الأكثر فقراً.
وكما هي الحال مع مخططات البنية التحتية سيئة السمعة لنيويورك في القرن الماضي، التي عزلت مجتمعات السود عن عمد عن المناطق المتميزة من حيث العرق والطبقة والمرافق العامة مثل شواطئ المدينة، وشواطئ باريس. وترتبط الضواحي بشكل محدود بشبكة المواصلات في المدينة، ما يزيد من عزلتها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي بؤسها. أولئك الذين يبحثون عن نقاط التفاؤل بعد الاضطرابات المدنية الأخيرة في فرنسا، يعتقدون أنه من المتوقع أن تزيد المشاريع الجارية أو المدرجة في السجلات مثل مد خطوط مترو الأنفاق لهذه الأجزاء التي تم إهمالها منذ فترة طويلة.
في 27 يونيو، قُتل مراهق فرنسي من أصل جزائري برصاص ضابط شرطة بدعوى عدم إيقاف سيارته، فيما يرقى إلى حد الإعدام الفعلي. ويُظهر مقطع فيديو للحادث تمت مشاركته على نطاق واسع عبر الإنترنت شرطياً يطلق النار على نائل مرزوق البالغ من العمر 17 عاماً من مسافة قريبة من نافذة سيارته بينما كانت سيارته تنطلق بعيداً.
ثم انتفض الشباب الملونون الغاضبون، في احتجاجات استمرت ستة أيام حدث خلالها العديد من أعمال النهب والتخريب وحتى العنف. وقد أثار هذا بدوره إدانات من شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، حيث استخدم الكثير من الناس لغة عنصرية أو عنصرية صريحة للتنديد ليس فقط بسلوك المتظاهرين، ولكن أيضاً للوجود المتزايد للأقليات في فرنسا والهجرة التي تساعد على دفع مثل هذا السلوك.
ما أثار اهتمامي هنا هو المصادفة القوية للتوقيت - وكما سأشير هنا لاحقاً، ربما كان لهذا علاقة أعمق من حيث التاريخ والأهمية مع قرار مهم من المحكمة العليا الأميركية. وهنا تبرز المفارقة.
لطالما افتخرت فرنسا بنفسها في تعاملها الفريد مع التنوّع العرقي. وتقترب السياسة الرسمية من الادعاء بأن مثل هذه العنصرية غير موجودة وتشير إلى أن هذا أمر إيجابي. ويقول أحدهم إن الجمهورية لا تقبل التفرقة، وفي سعيها لتحقيق عالميتها المفترضة، جعلت فرنسا جمع البيانات على أساس عرقي أمراً غير قانوني.
إذا كان من الممكن أن نلمح بعض المثالية المثيرة للإعجاب في مفهوم فرنسا للعالمية، فإن لها جانباً مظلماً معترفاً به بشكل غير كافٍ أيضاً. أولاً، يتطلب الأمر استيعاباً شبه كامل للهوية الوطنية المهيمنة التي قد نسميها «الفرنسية»، والتي يتم تعريفها بشكل كبير من قبل أفراد من عرق واحد. ومن أجل أن تتفاعل مثل هذه النظريات، يتطلب من «الفرنسية» التظاهر بعمى الألوان.
قد يساعد هذا العمى اللوني في منع الفرنسيين من ملاحظة أن صناعة الأخبار التلفزيونية أو السينما الخاصة بهم، تتمثل في صناعتين، بيضاء بشكل كبير، تتجاوز التقسيم الديموغرافي الحقيقي للمجتمع، لكنها لا تفعل شيئاً للتخفيف من الحقيقة الأساسية التي تقول إن الفرصة لاتزال مرتبطة بقوة بالعرق في البلاد. الشيء نفسه، بالنسبة لهذه المسألة، ينطبق على الحياة في الضواحي المعزولة، في مقابل الأجزاء الأكثر راحة في المدينة. لديّ قليل من الشك في أن هذه الأنماط نفسها تسري في مجالات أخرى من المجتمع أيضاً، من المؤسسات التعليمية النخبوية إلى السياسة الوطنية.
إن المثال المضاد الأقوى لفرنسا هو، بالطبع، الولايات المتحدة، التي ظلت تمثل منذ فترة طويلة لفرنسا البلد الذي تختلف عنه من حيث التعامل مع الأعراق، والذي ينظر إليه الفرنسيون على أنه بلد متعجرف يتناقض أسلوب الحياة فيه عن فرنسا. ولكننا نجد أن الولايات المتحدة ترفض أيضاً أي فكرة لأخذ العرق أو اللون في الاعتبار عند تشكيل السياسة العامة، وتعتبر ذلك مجانباً لمفهوم «الأميركية» بشكل خطير.
الحكم الأخير الصادر عن المحكمة العليا الأميركية بأن برامج القبول في الجامعات حسب العرق تنتهك الدستور الأميركي، يشير إلى أن البلدين يتقاربان بالفعل في المفهوم على الطريقة الفرنسية: التظاهر بأن اللون غير موجود وأن العرق لا مكان له في السياسة الاجتماعية.
ربما يكون حكم المحكمة العليا قد حظر رسمياً اعتبار مسألة العرق في القبول بالجامعات في الولايات المتحدة، لكنه لا يمكن أن يعلن عن الحقيقة بأن الطلاب السود ممثلون تمثيلاً ناقصاً بشكل كبير في التعليم العالي في البلاد - كما ظلت عليه الحال منذ أجيال - وهذا نتاج السياسة الفعلية خلال حقبة الولايات المتحدة الطويلة من الفصل العنصري وقانون جيم كرو.
في الواقع، كما جادلت أستاذة القانون بجامعة شيكاغو، سونيا ب.ستار، توجد فجوات عرقية عبر مجموعة واسعة جداً من الفئات في الحياة الأميركية، من معدلات الدخل والتوظيف إلى وفيات الأمهات ومتوسط العمر المتوقع للتعرض للتلوث البيئي السام والسجن.
والسؤال هو: ما الذي يجب على المجتمعات الغنية مثل الولايات المتحدة وفرنسا أن تفعل حيال مثل هذه الحقائق؟ من الواضح أن أخذ العرق في الاعتبار بشكل علني يثير استياء أعداد كبيرة من الناس في الديمقراطيات الغنية، خصوصاً بين أولئك الذين استفادوا أكثر من عدم المساواة. إذا لم يُسمح للحكومات حتى بالموازنة بين الحقائق العرقية، فما الأمل الذي نتوقعه من هذه السياسة العامة لمعالجة هذه المشكلات؟
• استخدم الكثير من الناس لغة عنصرية للتنديد ليس فقط بسلوك المتظاهرين، ولكن أيضاً بالوجود المتزايد للأقليات في فرنسا.
هوارد دبليو فرينش ■ كاتب عمود في مجلة «فورين بوليسي»
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news